كل يوم الساعة ثمانية بالظبط يدخل عليّا المكتب بجلبيته البلدي الداكنة وعليها التلفيحة الصوف بلون بني داكن وطاقيته الصوف اللي راجعة شوية ورا مبينة ما تبقى من شعرة الأبيض وجبينه العريض وعلامة الصلاة الكبيرة في منتصف الجبين ويرسم على وشه ضحكة ويقول نفس الجملة كل يوم .
- اصباح الخير يا استاذ خالد .
- صباح الفل يا عم فرج .
- مفيش اخبار يا خالد يا بني .
- لا والله يا عم فرج .
- ما فيش حاجة جت بعد ما روحت البارح.
- لا والله
- طيًب... ربنا كريم ،،، ويخرج
"عم فرج ابواسماعيل وجه يحمل كثير من الطيبة والحزن والفرح احيانا.ً
ملامح مصرية تحيرك زي ما وصفها قائد فرنسي لنابليون .
لما تبص لوشه ما تعرفش هو فرحان ولا زعلان بس تشوف علامات الرضا دايماً على وشه حتى التجاعيد المرسومة بدقة على وشه دي ما تعرفش رسمتها السنين ولا الحنين ولا الأنين ."
على باب البوستة فيه مصطبة صغيرة بيقعد عليها عم فرج يبص على العربيات اللي جاية واللي رايحة .
كل عربية توقف يبص فيها باهتمام ويدور في وشوش الناس اللي نازل واللي مش نازل .
يفضل على الحال ده لغاية ما يسمع آذان الظهر يقوم ينفض جلبيته من التراب اللي عليها الاول ينفض كمام الجلبية بايده وبعدين ينفض الجلبية من ورا ويروح يصلى وما اشوفوش إلا تاني يوم.
ولما يشوف رجب شايل زكيبة الجوابات و داخل المكتب يجي جري وراه قبل ما افتح الزكيبة!
ويستنى لما افرز الجوابات وبعدين يسأل
هااااا يا استاذ خالد فيه حاجة .
بقالنا على الحال ده حوالي خمس سنين .
من يوم ما انتقلت للبلد دي .
اول ما جيت البلد لفت نظري عم فرج ومش عارف ليه حبيت الراجل ده .
ملامحة مريحة بتفكرني بملامح ناس طيبين بقوا نادرين اليومين دول.
ساعات كنت بشوف فيه ملامح جدي وساعات احس انه شوفته قبل كده وساعات احس انه بشوفه في اماكن كتير .
لما سألت الاستاذ عبد الله مدير المكتب عنه قالي :
عمك فرج ده كان له ولد واحد ربنا رزقه بيه بعد ثلاث بنات بحوالي عشر سنين .
وكان شغال عامل تحويلة في السكه الحديد وعنده حته ارض مأجرها من الإصلاح بيزرعها وكان عايش من خيرها.
بعد ما طلع قانون الإصلاح الجديد مبقاش ادامه إما انه يشتري الأرض او يطلع منها.
الراجل غلبان هايجيب الفلوس دي منين ؟
دور على حد يسلفه فلوسها بس مين يسلف حد علشان يشتري ارض
وحتى لو لقى اللي يسلفه ! حايسدد الفلوس دي امتى وازاي.
ابراهيم ابنه خلص الدبلوم وسافر عـ العراق زي كل شباب البلد علشان يساعد ابوه ويقدروا يشتروا الارض .
سافر ابراهيم قبل غزو العراق للكويت بحوالي عشر شهور .
وكانت جواباته لعمك فرج ولاصحابة واخواته البنات ما بتنقطعش والحوالات كان بيبعتها لعمك فرج يحطها على القرش اللي قدر يحوشه من زرعة القطن علشان يجمّع فلوس الارض .
بعد الغزو بكام شهر انقطعت اخبار ابراهيم ولا جواب ولا اتصال ومحدش عارف ايه اللي حصل .
ناس من ولاد البلد بيقولوا انه اتجند في الجيش العراقي وشافوه لابس اللبس الميري ودخل الكويت في الغزو.
وناس بيقولوا اتجوز عراقية غنية جوزها مات في الحرب وعايش حياته هناك ونسى ابوه ونسي البلد .
وناس تانية بيقولوا مسجون.
وناس بيقولوا مات .
وكلوا كلام ماحدش يعرف الحقيقة فين .
ولما انقطعت اخبار ابراهيم وفلوسه ومقدرش عمك فرج يدفع الفلوس وراحت الأرض.
من ساعتها وعمك فرج على الحال ده يجي يسأل على جوابات وبعدين يقعد على المصطبة يستنى ابراهيم ينزل من أي عربية .
مسكين عمي فرج اصعب حاجة في الدنيا الانتظار .
والاصعب انتظار المجهول!
بعد اسبوع إجازة قضيته في بلدنا لظروف تعب امي .
رجعت النهارة الشغل!
بس جيت متأخر شوية
لفت نظري وانا داخل المكتب ان عمي فرج مش قاعد على المصطبة!
- صباح الخير يا استاذ فؤاد
- امال فين باقى الموظفين !
- وهو فيه موظفين غيرنا في المكتب .
- ايوه عمي فرج .
- هههههه انت ما عرفتش ،
- لا هاعرف منين
- يا سيدي ابراهيم ابن عمك فرج رجع من العراق .
- مش معقول .
- والله رجع من يومين .
- ناس من البلد شافوه في سجن الخليفة وبلغوا عمك فرج .
- عمك فرج راح استلمه من هناك.
- ياااااااه زمان الراجل طاير من الفرح
- هئ , بكره يجي وتشوفه
- هو مش فرحان برجوع ابنه
- مش ده اللي كان مستنيه من زمان ؟
- ابراهيم راجع مش عارف حد وبيتكلم بالعافية زي ما يكون نسى الكلام !!
عامل زي العيل الصغير !!
- لا حول ولا قوة إلا بالله !! ليه
- بيقولوا كان معتقل واللي عنده ده من كتر التعذيب وناس بيقولوا اصله كان في الجيش واشترك في الحرب والامريكان استخدموا في الحرب غاز بيدمر المخ.
- ويمكن جوازه من العراقية !!!
- اصل بيقولوا الستات العراقيات تهبل !
- شوفت بقى علشان تعرف قيمة الزوجة المصرية!!
- صحيح فيه فرق كبير ابراهيم فقد النطق واحنا فقدنا المنطق هو نسي الكلام واحنا بنكلم نفسنا، لا فيه فرق كبير الحمد لله
- المشكله إنه ما بيتكلمش علشان يحكي ايه اللي حصل له
- المهم رجع والراجل ارتاح من الانتظار .
- ويمكن يكون انتظاره كان اهون !
- بعد كل الانتظار ده ويرجع ابنه واحد تاني ! سبحان الله
- غريبة الدنيا دي ، الواحد يفضل عايش على امل ينتظره ويجري وراه ولما يلاقيه يكتشف ان انتظاره كان احسن !
- ساعات انتظار الأمل بيبقى احلى من الوصول ليه !!
اسبوع عدى دلوقتي وما شوفتش عم فرج .
كان عندي فضول اشوفه بعد ما رجع ابنه واعرف هو فرحان ولا لأ
الساعة ثمانية بالظبط دخل عليا عمي فرج ومعاه شاب شعره قصير وذقنه طويله .
مرسوم على شفايفة ابتسامة وعينه زايغة مش ثابتة على شيء
سلم يا ابراهيم على الاستاذ خالد.
مديت ايدي ليه ، سلم عليا وهو مبتسم بس ما نطقش ولا كلمه.
وطلعوا الاتنين قعدوا على المصطبة في نفس المكان .
نفس القعدة ونفس النظرة الحايرة لعمي فرج ونفس لهفة الانتظار .
ورجع عمي فرج لنفس البرنامج اليومي .
رجع بس دلوقتي مش لوحدة .
لقى حد يشاركة انتظاره.
يستنى معاه رجوع الغايب.
"مهاجر"
موضوع: الغــــايــــب " مهاجر " 
الثلاثاء 19 يناير 2010 - 8:57
