معتز بالله عبد الفتاح
رسالة إلى شباب الإخوان ضحايا قيادات الإخوان
نشرت «الوطن» ثلاث شهادات مهمة فى ثلاثة مقالات مهمة الأسبوع الماضى.
المقال الأول، ودون ترتيب مقصود، كان للدكتور ناجح إبراهيم، أحد مؤسسى الجماعة الإسلامية فى السبعينات والثمانينات، وقد مر بها ومعها من التأسيس إلى التكفير إلى التفجير ثم إلى السجن إلى التفكير إلى المراجعة، وأحسبه يجسد الآن قمة نضجه الفكرى. كتب الرجل متسائلاً: «كيف ضاعت الفرص على الإسلاميين؟»، ويقدم استعراضاً تاريخياً بانورامياً فى مقاله بتاريخ 15 سبتمبر، ليقول: «أتيحت للحركة الإسلامية أربع فرص خلال قرن كامل منذ بدء تكوين جماعة الإخوان وحتى الآن»، ويقدم استعراضه لهذه الفرص بدءاً من الفرصة التى لاحت للشيخ حسن البنا مع النحاس باشا، حيث ترك للإخوان حرية الدعوة بلا قيود، ما أدى إلى انتشار أبناء الجماعة وزيادة عدد مريديها، ثم ضاعت منهم الفرصة حين دخلوا السياسة داعمين الملك فى كل قراراته حتى غير الشعبية منها، وحين قرروا دخول البرلمان وهم يرفضون الحزبية، وهنا كان سوء تقديرهم السياسى قائداً لهم لمواجهات انتهت باغتيال الشيخ البنا ومطاردة أبناء الجماعة.
وجاءت الفرصة الثانية بعد ثورة يوليو، حيث شارك الإخوان فى الثورة، وكان هناك شهر عسل بين الإخوان والضباط الأحرار لمدة عامين، بدأت الدعوة الإخوانية فيها تنتشر وتزدهر مرة أخرى إلى أن بدأ الإخوان يقدمون أنفسهم باعتبارهم لاعباً سياسياً منافساً للضباط الأحرار، وهنا حدثت المواجهات بين الطرفين لتضيع الفرصة الثانية.
ثم تأتى الفرصة الثالثة مع عصر السادات، ليتيح لهم حرية الدعوة، ولكنهم للمرة الثالثة يستغلون حرية الدعوة للدخول فى ضيق الصراع السياسى، فيواجَهون مرة أخرى بحملات اعتقالات ظلت مستمرة حتى بعد عهد السادات. ثم جاءت الفرصة الرابعة بعد ثورة 25 يناير، وتكونت الأحزاب الإسلامية، وفازت فى الانتخابات، لكنها تدخل فى صراع مع قطاعات من الشعب الرافض لأساليبهم فى إدارة الدولة، وبدلا من الاستجابة للمطالب الشعبية تحدث مواجهات، وينتقلون مرة أخرى من «كراسى السلطة إلى ضيق المعتقلات». يعقب الدكتور ناجح على ما رصد ليقول: «لقد استوقفنى طويلاً قول عبدالله بن عمر للحسين بن على، وهو يريد منعه من الخروج طلباً للخلافة: إن الله لن يجمع لكم النبوة والخلافة». وكأنها سنة الله فى خلقه أن على الإسلاميين أن يختاروا بين النبوة (أى الدعوة) والخلافة (أى الحكم).
إذن ما فهمته من عرض واستنتاج الدكتور ناجح أن المشكلة قديمة، وأنها أقرب إلى المرض العضال، وأنها تكررت أربع مرات مع نظم مختلفة، وفى كل مرة يختلط على من يمثلون الحركة الإسلامية جاه الدنيا بقداسة الدين، فينتهون إلى معارك تضيِّع منهم حرية الدعوة إلى الله، أياً ما كان فهمهم لها، لأنهم يطمعون فى ما هو أكثر من الدعوة إلى الله، بالرغبة فى حكم الناس؛ فيضيع الاثنان.
أما المقال الثانى، فهو للأستاذ محمد حبيب، الذى كان النائب الأول لمرشد الإخوان المسلمين. وعنوان المقال «ماذا حدث عندما جاءت الحرية؟»، وهو بتاريخ 17 سبتمبر، ليشير فيه إلى عدد من المشاكل البنيوية فى الجماعة، التى تفسر لى لماذا وقع شباب الإخوان ضحية صورة ذهنية غير دقيقة عن قياداتهم لدرجة أن بعضهم يتحدثون عن زعاماتهم وكأنهم مثل صحابة الرسول، صلى الله عليه وسلم، مع أنهم لو تعاملوا معهم بجد سيجدونهم مصريين عاديين جداً، بما فى المصرى من مميزات وعيوب. ولكن يبدو أن عصر الملاحقات الأمنية، والرغبة فى صلابة التنظيم، فرضا طريقة فى إدارة الجماعة أدت إلى تلك الصورة الرومانسية عن القيادات فى عقول الشباب.
يشير الأستاذ حبيب إلى أنه فى عصر مبارك كانت هناك سياسة ثابتة فى التنصت على قيادات الجماعة ومتابعة تحركاتها والقبض على عناصرها المفصلية، واستدعاء أفراد الإخوان أمنياً والتحقيق معهم مع ممارسة التعذيب ضد من ينكر انتماءه للإخوان أو لا يفيض فى سرد المعلومات. هنا يقول الأستاذ حبيب كلاماً مهماً للغاية: «لأجل ذلك، حرصت قيادة الجماعة على أن تكون المعلومات المتاحة لدى الأفراد محدودة للغاية، وبما يعينهم فقط على أداء دورهم، حتى إذا تعرض أحدهم لتعذيب شديد يوماً ما، فلا يفصح إلا عن هذا القدر المحدود.. وقد نشأ عن ذلك هوة كبيرة بين الأفراد وقيادات الجماعة، خاصة العليا منها، فالأفراد لا يعلمون شيئاً عن هذه القيادات، ولا عن الحيثيات التى بنوا على أساسها قراراتهم ومواقفهم، وما يربطهم بالقيادات هو الانصياع لتوجيهاتها وتعليماتها دون تردد، الأمر الذى أسبغ عليها هالة من القداسة، خاصة أن الظرف والسياق اللذين كانت تمر بهما الجماعة آنذاك لم يكونا يسمحان بمساءلة أو محاسبة لهذه القيادات».
أرجو قراءة الفقرة السابقة مرة أخرى، لأنها تفسر لماذا يبدو شباب الإخوان وكأنهم يتحدثون عن «عمر بن الخطاب» وهم يشيرون إلى الدكتور محمد مرسى الذين لم يروه فى حياتهم قط. ويفسر أيضاً لماذا أن الكثير من خيرة شباب الجماعة خرجوا منها بعد أن وجدوا أن عقولهم أنضج كثيراً من التعامل معهم كمجرد أتباع بلا عقول.
وتستمر شهادة الأستاذ حبيب ليوضح أنه بسبب الملاحقات الأمنية: «لم تكن الجماعة تتمكن من إجراء انتخاباتها الداخلية للشُّعب والمناطق والمكاتب الإدارية وفق القواعد والأصول المنهجية فى الاختيار، فالخوف من مداهمة المكان فى أى لحظة جعل العملية الانتخابية تجرى كيفما اتفق، وهو ما أدى فى كثير من الأحيان إلى إفراز قيادات غير مؤهلة، وفاقدة للموهبة، وكل ما يميزها هو حظها من ثقافة السمع والطاعة»، أرجو قراءة هذه الفقرة الأخيرة مرة أخرى.
إذن الكثير من القيادات غير المؤهلة التى بدأت تظهر على السطح فى الإدارات الحكومية والمحليات والإعلام، لم تكن نتيجة أفضل العناصر من حيث الكفاءة بالضرورة، ولكنها على الأقل «تسكين» لمن يقولون «نعم» ثم يفهمون لاحقاً أو لا يفهمون. مع حقيقة أن بعضهم بالفعل كانت له قدرات معقولة، ولكن التوجه العام كان هو استغلال فرصة الوصول إلى السلطة أولاً لتمكين أعضاء الجماعة بصرف النظر عن الكفاءة.
ويختم الأستاذ حبيب بقوله: «لقد كان أهم ما تحتاجه وتتطلع إليه الجماعة قبل ثورة ٢٥ يناير هو الحرية.. حرية التربية والدعوة، والعمل على إفساح المجال لجيل مختلف من الإخوان، جيل يبتكر ويبدع.. لكن للأسف، عندما جاءت الحرية، لم يحسنوا التعامل معها، ولا تقدير استحقاقاتها ومتطلباتها، وإذا بهم يقفزون مباشرة إلى أتون الدولة، دون تهيئة أو استعداد، خاصة مع وجود أفكار ملتبسة حول الوطن والديمقراطية والمواطنة.. لذلك، أضاعوا على أنفسهم فرصة العمر التى طال انتظارها.. كان من المفترض أن يهتبلوا الفرصة ليعيدوا ترتيب أوراقهم وأفكارهم». وكأنه بهذا يصل إلى نفس النقطة التى وصل إليها الدكتور ناجح إبراهيم من سوء استغلال الحرية المتاحة والنهم السريع للسلطة مع عدم الاستعداد لها.
يتبقى المقال الثالث، للمحامى الشهير والقيادى الإخوانى السابق الأستاذ مختار نوح، بعنوان: «الهضيبى ومشهور ضد رابعة وضد الثورة»، بتاريخ 15 سبتمبر، لتكون خير ختام. وما لفت نظرى فى المقال أن ما كنت أتوقعه وأنصح به هو أصلاً جزء من أدبيات عقلاء الإخوان، ولكن القيادات الحالية مثلما انحرفت بالسلطة انحرفت بالمعارضة، وفى الحالتين يخسر شباب الإخوان بسبب فشل قياداتهم.
يروى الأستاذ مختار أنه فى لقاء بينه وبين الأستاذ مصطفى مشهور، المرشد الأسبق للجماعة، تلا عليهم «فقرات من رسالة المؤتمر الخامس التى ألقاها حسن البنا، رحمه الله، فى 2 فبراير عام 1939، التى جاء نصها: أما الثورة فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها، ولا يعتمدون عليها، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها. واختتم الأستاذ مصطفى مشهور، رحمة الله عليه، عبارته بتحذيرى من أن أظن أن يكون الحق معى، فلا يكفى هذا الظن فى ذاته للدفاع عنه، إنما الأهم هو ألا يترتب على طلب الحق أى ضرر لنفسى أو لغيرى أو للمجتمع. انتهت كلمات الأستاذ مصطفى مشهور».
«مُع مُع» يتساءل: طيب، إذا كان هذا هو كلام البنا ومشهور، من أين أتت القيادات الحالية بما فعلت وتفعل؟
مثلما قلت من قبل: هم كانوا مثل من كان جائعاً فأكل بنهم، فمات من التخمة المفاجئة؛ جاع، أكل، زور، مات. وهذا عادى، وبيحصل فى أحسن المجتمعات، لكن يحصل أربع مرات يبقى فيه مشكلة.
أرجو من شباب الإخوان، والله عليم بأننى حريص عليهم حرصى على كل شباب مصر، لأنهم طاقتها المفترضة، اخرجوا من ضيق الإخوان إلى رحابة الإسلام، اخرجوا من ضيق الجماعة إلى رحابة المجتمع، لا تجعلوا «عضويتكم» فى جماعة سبباً للتصادم مع «انتمائكم» للوطن. التحديات المقبلة كبيرة وكثيرة وعظيمة، وأنتم شركاء فى الوطن، وعليكم مسئوليتكم، شأنكم شأن غيركم، ما لم تصيبوا دماً حراماً، ولا تساووا بين الوطن وأى جماعة أو حزب أو حتى نادٍ رياضى، ولا تستمعوا إلى من ينال من وطنيتكم ومصريتكم، فالوطن للجميع على قدم المساواة، ولكن ابتعدوا عن موطن الداء وهو «السمع والطاعة» لمن لا يستحقون منكم لا سمعاً ولا طاعة.
كونوا مسلمين أحراراً، ولا تكونوا إخواناً أتباعاً. والقرار لكم.