ثروت الخرباوى يكتب عن الجماعة التى كان منها وكانت منه (الحلقة الأولى)
الجزء الأول من كتاب «قلب الإخوان» فى كلمة أو فى بضع كلمات؟ إذن فاسمعوا خفقات قلبى وهى تقول:
فى جماعة الإخوان كانت لى أيام.. صرت أنا من الإخوان وصار الإخوان منى.. وفى الإخوان نزفتُ نفسى وللإخوان سكبتُ نفسى وفى الإخوان نسيتُ نفسى.. فتلاشيتُ كقطرة ماء تبخرت.. وحين يوم وقعت قطرة الماء من السحابة فتألمَت ومن ألمها ستنبت خضرة.. وذات يوم عرفت قطرة الماء أن الضياء ينير الطريق ولكنه أحيانا يعمى البصر
مرت سنوات وأنا فى قلب الإخوان، رأيت فيها أفكارا ترتفع وأفكارا تتهاوى، شخصيات حملت الجماعة، وشخصيات حملتها الجماعة، كان فى ظنى أن التنظيم ما هو إلا وسيلة لتوجيه طاقات الفرد الإبداعية وتنميتها، فإذا به وسيلة لتكبيل الفرد فى سلسلة بشرية طويلة أشبه ما تكون بسلسلة العبيد التى كانت تُحمل إلى أمريكا من بداية القرن السادس عشر، الفارق أن «كونتا كنتى» الشاب الإفريقى المسكين الذى كان يتم أسره من غرب إفريقيا قهرا وغصبا ليدخل فى سلسلة المستعبدين، كان لا ينفك عن التمرد على العبودية إلى أن يستنيم لها مجبرا، ولكنه يظل أبد الآبدين مستعبد الجسد طليق الروح والنَّفْس، ثم تخرج من صلبه بعد ذلك أجيال لا تعرف إلا العبودية فتظنها الحياة وحينها تكون هذه الأجيال هى أعدى أعداء الحرية، ويكون السجان هو سيدها وقُرَّة عينها، أما الذى يفتح لها الأبواب المغلَّقة لتنطلق إلى حريتها فهو العدو الذى يجب أن تقاومه.
عبودية التنظيمات الحديدية هى أشد وأنكى من عبودية «كونتا كنتى» إذ إنها عبودية الأجساد والأرواح والأنفس، هى أشبه ما تكون بقصة «فاوست»، الذى كان يبحث عن «حجر الفلاسفة» فباع برغبته روحه للشيطان، ما أقسى أن ترهن روحك لآخرين حتى ولو كانوا ملائكة، وما أروع أن تكون عبدا لله وحده، حين قرأت ترجمة الفيلسوف المصرى عبد الرحمن بدوى لقصة «فاوست» لجوتة، أدركت أن شقاء الإنسان لا يكون إلا بفعله، ولكن هل يدرك الإنسان حجم المأساة التى تنتج عن تفريطه فى حريته! لا شك أنه قد لا يدرك عمق المأساة وقت التفريط فى الحرية، ولكنه قد يعرف فداحة فعله بعد حين، وقد يظل عمره كله جاهلا ما وقع فيه، انظروا إلى هذا الشاب غض الإهاب، الذى لم يُعجم عوده بعد، والذى تدفعه عاطفته الدينية إلى الوقوف فى صف السلسلة البشرية المستعبدة منتظرا دوره فى التكبيل التنظيمى على أحرّ من الجمر وكأنه يتعبد لله حين يصبح فردا يقوده راعى البشر، ما أغبانا حين يقودنا الراعى بعصا الدين والأخلاق والشريعة، ونحن نهش له، يا لله! كم من العبوديات تُرتكب باسم الله، أصاب طاغور الحكيم حين قال «ثقيلة هى قيودى والحرية هى مناىَ ولكننى لا أستطيع أن أحبو إليها، فمن استعبدونى رفعوا لافتات الفضيلة وجعلوها حائطا بينى وبين حريتى».
سر عضو «الإخوان» الذى كـــــان عميلا لأمن الدولة
هل من الممكن أن أصف لكم مشاعرى وأبث لكم شجونى، أنا الآن أحلِّق فى السماء، كالطير يجنح نحو الأفق، أو كسهمٍ مَرَق، ولعلنى اليوم أعرف مدى سعادة الطير وهو يجوب الآفاق حرًّا، لا تظن أبدا أن الهواء هو الذى يحمل الطير حين يحلق، الحرية فقط هى التى تحمله، ما أعظم الحرية حين تداعب مشاعر من عاش مقيدا مكبلا، كانت آخر أيامى فى تنظيم الإخوان هى أسعد أيام حياتى، ويالها من أيام، كنت قد عقدت العزم على التخلص من تلك القيود الثقيلة التى أقعدتنى وعرقلتنى وحاولت تكبيل أفكارى، فالنَّفْس السوية ترفض الاستبداد حتى ولو كانت قيوده من ذهب، أو كانت جدرانه قد شُيِّدت من لافتات الفضيلة، ها هى اللحظات الأخيرة تداعب خيالى من جديد، تحث ذاكرتى على العودة إلى لحظات الخروج، تلك اللحظات التى اعتبرتها أزمنة قدسية، زمن الحصول على صكّ الحرية هو الأعظم فى تاريخى، قبلها نشبت معركة طاحنة بين قلبى وعقلى، هل أترك الجماعة، أم أظل فيها حتى ولو تحكَّم فيها الاستبداد؟فتحتُ حوارات مع أصدقائى عن قيمة الحرية، قلت لعاطف عواد الذى ترك الجماعة قبلى: عظيمة هى قصة «وداعا شاوشنك» تلك القصة الرائعة التى كتبها ستيفن كينج، ثم تحوَّلَتْ إلى فيلم سينمائى بطولة تيم روبنز ومورجان فريمان، دخل روبنز سجن شاوشنك ولكنه ظل عشرين عاما يبحث عن حريته إلى أن حصل عليها فى الوقت الذى أصبح فيه هذا السجن هو كل الدنيا لمساجين آخرين، لا يعرفون غيره ولا يتقبلون سواه كأنه هو الحياة، أظن جماعة الإخوان تحولت إلى سجن بشرى لا يحفل كثيرا بقيمة الحرية، يستحقون الرثاء من عاشوا فى الظلام وينزعجون من النور، من يقبعون فى أقبيتهم وسراديبهم الضيقة وهم يحسبون أن الطريق إلى الدين والفضيلة لا يكون إلا من خلال الأقبية والسراديب المغلقة.
قال عاطف «الذى أصبح فى ما بعد عضوا بالهيئة العليا لحزب الوسط»: كأنك تستعيد يا صديقى قول لامارتين «أى قيمة للفضيلة إذا لم توجد حرية؟!».
قلت له: لامارتين! لو سمعوك لقالوا إنك صبأت وأصبحت من الليبراليين أو العلمانيين وساء أولئك رفيقا، ثم استطردت وأنا أغالط نفسى: ولكن هل يطاوعنى قلبى على أن أترك جماعة أحببتها.. أتركها والفساد يعشش فى رأسها ويضرب بجذوره فى أطنابها.. لك أن تعرف أن عديدا من الإخوان النبهاء من أصحاب العقول النيرة والقلوب المضيئة يجاهدون داخل الجماعة حتى لا تصبح خاوية على عروشها بلا مصلحين… فلماذا أتركهم وحدهم؟ أكون حينئذ قد تخليت عنهم.
قال وقد نفد صبره: يا سيدى.. الإصلاحيون لا يستطيعون التنفس داخل جماعة «كتم النفس» هذه.. عبد المنعم أبو الفتوح يظن أنه يستطيع الإصلاح ويحاول أن يجمع معه جيل الوسطيين مثل إبراهيم الزعفرانى وآخرين، لكنهم جميعهم يعيشون على وهم لن يتحقق، إن الفريق الذى سرق الجماعة يقوم بدوره بنجاح ملحوظ وهم يسحبون حاليا كل الملفات التى كان أبو الفتوح مسؤولا عنها، أصبح عبد المنعم الآن يجلس فى الجماعة بلا عمل، وأظن أنه سيستيقظ ذات يوم من حلم الإصلاح هذا على قطار الإخوان وقد ابتعد عنه وتركه وحيدا بلا جماعة.
تأملت قوله وانتابتنى لحظة صمت وسرعان ما قطعتها قائلا: أصدقك القول، لقد كنت أشعر منذ آماد طويلة أن هذه الجماعة سجن وقيود وأنا السجين الذى لا يستطيع أن يحبو إلى حريته.. ثقيلة هى قيودى.. ندت عنى ابتسامة ساخرة وأنا أقول: أخشى أن أكون قد أدمنت السجن والسجان.
الآن وبعد سنوات عديدة من يوم الخروج من الجماعة أجلس فى غرفة مكتبى وحيدا أخطّ هذه الذكريات، أذكر آخر لقاء جمعنى بالمستشار مأمون الهضيبى، كان ذلك فى غضون عام 2002 صدمنى الرجل بكلماته الجافة الخشنة، أهكذا يكون الدعاة! كان اللقاء قد دفعنى إليه الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح من أجل تخفيف حدة الهجوم ضدى داخل الجماعة، كان من المفترض وفقا لما وقَرَ فى يقينى أن لقائى المستشار مأمون الهضيبى سيكون ثريًّا له قيمته، فالرجل يحمل فوق كتفيه تاريخا ويختزن فى مكنون ذاته كمًّا متنوعًا من المعارف القانونية والخبرات السياسية والتنظيمية، إلا أننى تذكرت عند لقائى الأخير معه ذلك المثل العربى الذى يقول «أن تسمع بالمعيدى خير من أن تراه». ويبدو أن معارف الإنسان وخبراته قد تكون عبئا عليه أو يكون هو عبئا عليها إن لم تكن له بصيرة وسِعة أفق، كذلك الجواهرى الذى وهبه الله ذهبا وجواهر نفيسة فقذفها فى اليم إلى غير رجعة!
كان عديد من اللقاءات الإخوانية التنظيمية قد جمعنى بالمستشار الهضيبى سابقا إلا أنه فى الغالب الأعم كان قليل الكلام يميل إلى الاستماع ولا يعقّب إلا بكلمات قليلات… وكان معظم الحوارات التى جمعتنا تدور فى مجملها حول شؤون تنظيمية وحركية لا علاقة لها بالفكر كما لم تكن لها علاقة بالإنسانيات والمشاعر، لذلك لم تتح لى الفرصة كى أختبر عن كثب بصيرة هذا الرجل وقلبه، إلا أنه ظهر لى من خلال خبرتى فى التعامل معه كما ظهر لآخرين أنه يتسم بضيق الصدر وسرعة نفاد الصبر.
كان لقائى إياه هو خاتمة قصتى مع الجماعة، حين تكلم ظهرت على قَسَمَات وجهى مخايل الدهشة حتى إننى كدت أهزّ رأسى لأعيد عقلى إلى مكانه المعهود، هممت بالوقوف للانصراف، فدفقات الكلام الذى خرج من فمه توحى بأنه كان يعيش فى مرحلة ذهنية متأخرة.
أشار إلىّ بيده يأمرنى بالجلوس وهو يقول: اقعد.. اقعد.. هل تظن أن «دخول الحمام كما الخروج منه؟!».
جلست وأنا أقول فى نفسى بعد أن غالبت ابتسامة طفت على سطح وجهى «ما دام الرجل يعتبر بيته حمَّامًا فكان من المفروض أن أدخل بقدمى اليسرى وأقول وأنا داخل: اللهم إنى أعوذ بك من الخبث والخبائث».
ودون تمهيد بادرنى بلهجة يشوبها الاستعلاء وكأنه رئيس مجلس إدارة شركة يخاطب أحد الموظفين عنده: أنت أخطأت فى حق الجماعة يا ثروت.. ويبدو أنك لم تعرف ما قاله حسن البنا.. قال «نحن جماعة انتظمنا فى صف واحد فإذا خرج منا واحد لن يقول الناس خرج واحد ولكن سيقولون صف أعوج»، تركته يسترسل فى حديثه إلى أن قال: نحن نتحالف مع من يستطيع أن يقرِّبنا من دوائر صنع القرار.. نحن تحالفنا فى «الأطباء» مع حمدى السيد ومع حسب الله الكفراوى فى «المهندسين» لهذا السبب.. وأى شخص قريب من دوائر السلطة العليا سنتحالف معه ولن نقبل أن يخرج أى واحد منا عن هذا القانون.. هذا هو دستور الجماعة.. دستور الجماعة.. وأنت رجل قانون.
انتظرت إلى أن استكمل كلامه ثم قلت: قانون التحالف مع من يكون قريبا من السلطة أظن أنه من الممكن أن يكون وسيلة مرحلية وليس دستورا دائما.
ظهر الضيق على وجهه ثم قال بنفاد صبر: لا تجادلنى، أنت رجل قانون، لماذا وضعتْ الدولة قانونا للمرور؟ طبعا حتى لا تتصادم السيارات، ماذا لو خالفت سيارة قانون الدولة وقطعت الإشارة الحمراء؟ قطعًا ستقع حوادث وستصطدم السيارات بالمارة، ماذا لو أقام أحدهم بناية دون ترخيص من الحىّ وفقا للقانون؟ سيصبح الحال فوضى… هناك قانون للعقوبات، مَن يخالفه يكون قد ارتكب جريمة، أليس كذلك؟
تنفست الصعداء وأنا أقول: لا ليس كذلك.
- ماذا تقصد؟ قالها مقاطعا وهو يبدى استغرابه.
أكملت كلامى وأنا أتناول كتابا كان على المنضدة وكأنه لم يقاطعنى: هناك مواد فى القانون تتم محاكمة الإخوان بموجبها مثل المادة 86 من المدونة العقابية.. وبالمناسبة الإخوان يخالفون هذه المادة ويرتكبون بمخالفتهم هذه جريمة إنشاء تنظيم دون أن يكون لهذا التنظيم رخصة من الجهات الرسمية.. فإذا كان قانون الجماعة فى رأيك يجب أن يتم احترامه كما نحترم قانون المرور وقانون العقوبات فحينئذ يجب أن نعلن عن حل الجماعة لأنها تخالف قوانين الدولة، لأنها نشأت دون رخصة كما البنايات التى تنشأ من غير رخصة، وإلا لأدت هذه المخالفة إلى اصطدام السيارات ووقوع الحوادث وإشاعة حالة فوضى.. أليس كذلك؟
هبَّ الرجل واقفا وهو يقول بعصبية وحِدّة وهو يشير إلى الباب: اتفضل يا أستاذ المقابلة انتهت.
تجمع فى ذهنى فى تلك اللحظة كل العمر الذى قضيته فى الجماعة وكل ما مر بى من أحداث، مرّ شريط الذكريات كأنه دهر ولكنه مرّ فى جزء من الثانية، رأيت أمام عين خيالى تلك المشاهد الرائعة التى شاركت فيها أو اقتربت منها أو تفاعلت معها، رأيت أشخاصا أفذاذا فى الفقه والفهم وسِعة الأفق، رأيت عقولا موسوعية وقلوبا نورانية، والآن واحسرتاه أرى جماعة بلا قلب.. هذا هو قلب الإخوان!! فى مكانه فراغ!! فقد تبخر القلب وتناثر خلف من ماتوا ومع من خرجوا.. اندثر القلب وضاع مِن يد مَن قَلَبَ الإخوان إلى ناحية أخرى.. الآن آن لى أن أختار.. آن لى أن أحسم أمرى.. أحببت جماعة الإخوان ووهبتها قلبى ومشاعرى وعقلى، فضّلتها على نفسى وبيتى وأولادى، لم أكن أحبها لذاتها كذلك المحب الولِه العاشق الذى يتدله حبا فى محبوبته لذاتها، ولكننى أحببتها لما ترمى إليه، لأنها دعوة وحكمة ووسطية وفهم واعتدال.. والآن تبدل الحال فلِمَ أبقى؟ لِمَ أظل أسيرا فى حبائل تلك الجماعة التى فقدت قلبها؟ لِمَ أرضى بالأسر والحبس فى أسوار عالية تمنع الرؤية وتحجب الرؤيا.. فلا خيال ولا إبداع؟ أأظل رهينة فى محبسهم مكبلا بأغلالهم وأنا من تاقت نفسه إلى سماء بلا قيود وأرض بلا حدود كطائر الباتروس الذى يقضى حياته محلِّقا فوق مياه البحار والمحيطات..؟ طِرْ أيها الطائر.. غادرهم.. اذهب إلى سمائك.. واحذر من أولئك الذى سيقولون لك إنك ستطير فى سماء ملبدة وتسير فى أرض مظلمة، فالنور فى قلبى وبين جوانحى، فعلام أخشى السير فى الظلماء؟ علامَ أخشى الطيران فى العتماء؟ كُنْ كالنسر فوق القمة الشمَّاء ولا تكن كدودة الأرض فى جحر كئيب وجُبٍّ سحيق.. لك نظر ولك بصيرة، فأين انتفاعك بنظرك ونظرتك؟ لله در المتنبى حين قال: وما انتفاع أخى الدنيا بناظره/ إذا استوت عنده الأنوار والظُّلَم.. قُم الآن وأمعِن النظر ويجب إذا نظرت أن تحسن الخروج كما أحسنت الدخول.
قمت متثاقلا ثم قلت بهدوء وأنا أنظر إلى الناحية الأخرى: المقابلة انتهت قبل أن تبدأ.. الآن آن لى أن أختار الصواب.. أنا الآن لست معكم فى الإخوان.
كان الفرار من ضيق التنظيم فرصتى للحرية، إلا أننى رأيت وأنا خارج قلب الإخوان أشياء تحير منها الألباب وتستعصى على التصديق.
▪ ▪ ▪
تقول الأسطورة اليونانية إن إيكاروس كان يعيش مع أبيه فى جزيرة كريت، أحب إيكاروس الطيران، فصنع لنفسه أجنحة أخذها من الطيور، ولصقها فى يديه بالشمع، ثم تهيأ للطيران، وقبل أن يطير نصحه أبوه: لا ترتفع كثيرا يا إيكاروس، لا تفكر فى الوصول للشمس، فإنك إن وصلت إليها فقدت حياتك، ولكن إيكاروس كان طموحا للمعرفة فلم يستمع إلى نصيحة أبيه وطار وطار وطار محلقًا فى الأجواء حتى اقترب من الشمس، اقترب من الحقيقة التى كان تواقا إليها، ولكن أشعة الشمس القوية الحارقة أذابت الشمع وحرقت الأجنحة فوقع إيكاروس ميِّتًا قبل أن يصل إلى مبتغاه.
فهل كنت كإيكاروس عندما حاولت أن أصل للحقيقة فى جماعة الإخوان، وهل سأنال ما ناله؟ كانت رحلتى نحو الحقيقة قد بدأت مصادفة، إذ لم يرد فى خاطرى أن جماعة الإخوان تضمر فى نفسها حقائق مفزعة لا يعرفها معظم الإخوان، فالأسرار محفوظة عند الكهنة الكبار، فى صندوق خفىّ لا يستطيع أحد أن يطّلع على ما فيه، إذ إن العتمة التى يعيشها أفراد الجماعة تحجب عنهم نور الحقيقة، وحين سرتُ وراء بصيص الضوء أرانى الله ما يعجز العقل عن استيعابه لأول وهلة، فمن عاش فى العتمة زمنا يفاجئه النور فيعشى بصره للحظات ويصعب على حدقتيه استيعاب الضياء.
كان من قدر الله أن تم القبض على بعض إخوة لى من الإخوان عام 1999 فى القضية التى عُرفت بقضية النقابيين، كان هؤلاء الإخوة يحضرون اجتماعا خاصا بقسم المهنيين بالجماعة فى مقر إحدى الجمعيات التابعة لنقابة المهندسين فى منطقة المعادى، وعندما تم القبض عليهم كان رد فعل الجماعة على المستوى الإعلامى والسياسى رديئا بطيئا، وحين وجدت أن الجماعة لم تُلقِ بالًا لهذه القضية، أخذت أبحث عن سر هذا التهاون، فالمستغرَب أن بعض المقبوض عليهم كانوا من كبار قيادات الجماعة، فمنهم الدكتور محمد بديع عضو مكتب الإرشاد وقتها ومرشد الإخوان فى ما بعد، ومنهم أيضا الدكتور محمد بشر عضو مكتب الإرشاد، والأستاذ مختار نوح مسؤول قسم المحامين بالجماعة وغيرهم، إلا أننى لم أصل فى الأشهر للأولى للقضية إلى شىء، فقد شغلتنى الأحداث عن تتبع «حقيقة الإعراض».
حينما وجدت أن الإخوان صنعوا لأنفسهم أُذنًا من طين وأُذنًا من عجين بخصوص قضية النقابيين، أخذت أدفع قسم المحامين إلى القيام بدور فاعل ومؤثر، وكان الدكتور محمد بديع وإخوانه فى السجن يرسلون إلىّ رسائل شبه يومية يطلبون منى فيها أن أتحرك مع المحامين على المستوى السياسى والقانونى بعيدا عن أقسام الجماعة الرسمية التى رأوا أنها خذلتهم، كانت رسائلهم لى تقطر أسى وحزنا من إخوانهم فى الله الذين تركوهم بلا اهتمام، حتى إن مكتب الإرشاد عندما قرر تخصيص مرتب شهرى لأسر الإخوة المحبوسين، أغدق على البعض وحرم البعض الآخر! كان شهر أكتوبر من عام 1999 هو الشهر الذى تم القبض فيه على الإخوان فى هذه القضية، وكأن شهر الخريف هو الشهر الذى أسفر عن بصيص الضوء الذى تتبعته لأصل إلى صندوق الأسرار، وفى منتصف شهر نوفمبر من نفس العام صدر قرار رئيس الجمهورية بإحالتهم إلى المحكمة العسكرية، وكان قرار الإحالة هذا على غير ما أنبأنا به الوسطاء! لذلك كان وقعه على نفسى مؤلما جارحا، وبعد يوم من قرار الإحالة إلى المحكمة العسكرية عقدنا فى قسم المحامين بالجماعة اجتماعا فى مكتب الأخ بهاء عبد الرحمن المحامى عضو مجلس نقابة المحامين.
كان بهاء من الإخوة الذين كان من المقدر لهم أن يحضروا الاجتماع الذى تم القبض فيه على الدكتور بديع وإخوانه إلا أنه تأخر فى الوصول إلى المكان وكان من حسن طالعه أن ذهب فى أثناء القبض على الإخوة فرأى قوات الشرطة المدججة بالسلاح تطوّق الشارع ففر هاربا بنفسه وترك سيارته، وذهب إلى مترو الأنفاق وكاد يقبض عليه أحد المخبرين إلا أن الله سلَّم.
مكتب بهاء عبد الرحمن يقع فى منطقة عابدين وهو مكتب متسع الحجرات والردهات، بدأت وفود الإخوة تهل على المكان حتى اكتمل الجمع فى الساعة العاشرة صباحا، وحين بدأت وقائع اجتماعنا تحدث الأستاذ محمد طوسون عضو الجماعة، وقال إن الدكتور محمد بديع المحبوس فى القضية طلب منه تشكيل لجنة إخوانية تكون مهمتها إدارة معركة هذه القضية من الناحيتين السياسية والقانونية، واقترح الأستاذ طوسون أن يكون اسم هذه اللجنة هو «لجنة إدارة الأزمة» وأن تكون بالانتخاب وفقا للائحة قسم المحامين، أخذ كل واحد من الإخوة يدلى برأيه فى الاقتراح، وتحدث كل ممثلى المحافظات، كان كلام الجميع حماسيا إلا أنه تلاحظ لى أن كلام المشاعر كان خطابيا بليدا كأنه من تماثيل الشمع التى تشبه الحقيقة ولكنها ليست هى، نظرت إلى الإخوان الذين يتحدثون وكأننى أجلس فى متحف «مدام تيسو» للشمع فى لندن! تخيلت أننى أقترب من حماسهم المتدفق لألمسه وأتبين حقيقته فإذا بى أكتشف أنه بلا حياة، مزيفون، كلهم مزيفون، إلا هو، شعرت بصدقه وحرقة قلبه، أحمد ربيع غزالى… كان أحمد ربيع يتولى مسؤولية قسم الأشبال بجماعة الإخوان فى محافظة الجيزة، وكان عضوا بمجلس شورى الجماعة وأمينا لصندوق نقابة المحامين بالجيزة، كان هو أعلى الموجودين فى رتبته الإخوانية، وشعرت أنه أعلاهم فى رتبته الإنسانية، والحق أننى لم أكن من أصدقاء أحمد ربيع المقربين، ولذلك لم أكن أراه كثيرا قبل وقائع هذه القضية، ولكننى كنت أشعر بنفسى تهفو إليه دونما سبب ظاهر، ولكأنما كانت جرأته فى الحق هى سبب انشداهى له، ولربما كان صدقه هو الرابطة التى أوصلته لفؤادى، وأشهد أننى لم أكن أراه من قبل إلا من خلال ضوء ضعيف، هو ضوء «الروابط الإخوانية» وهو أخفت من ضوء الشمعة، وضوء الشمعة لا يكفى لكى تكتشف الجمال الإنسانى فى من تحبهم.
وعلى آخر النهار تمت انتخابات «لجنة إدارة الأزمة» وانتخابات الإخوان لها طبيعة خاصة، فلا يجوز فيها أن يتقدم أحد للترشيح، ولكن الكل ينتخب، والكل مرشح، وأسفرت الانتخابات عن فوزى برئاسة لجنة الأزمة «بالإجماع» ما عدا صوتى أنا فقد ذهب لأحمد ربيع، ونجح فى عضوية اللجنة تسعة أعضاء كان منهم أحمد ربيع وبهاء عبد الرحمن، وجمال حنفى عضو مجلس الشعب فى ما بعد، وبعض أفراد آخرين، وأخذت اللجنة بعد ذلك دورها فى إدارة الأزمة، ويبدو أن هذه اللجنة كانت مصدر قلق للجماعة، وكان الذى أثار اندهاشى أن الأستاذ محمد طوسون عندما رأى السرعة التى نسير بها لنصرة إخواننا كان يقول لى ولأحمد ربيع مستنكرا وقد اشتد به الحنق: لماذا هذا الحماس؟! هذه ليست أول قضية يتم حبس الإخوان فيها، خفِّفا عنكما فقد يكون حبسهم فيه مصلحة للجماعة!
لماذا أكتب هذه الذكريات؟ يلومنى البعض عليها ويقولون إنك بها تفتّ عضد الجماعة التى تربيت فيها، ولكنهم لا يعلمون أن الحكايات التى نكبتها ولا نكتبها تصبح غنيمة لأعدائنا، لا يعلمون أننا لا نرتفع إلا إذا تعلمنا من تجاريب الحياة، ومن يقص علينا تلك التجاريب أبد الدهر لا أبا لك يرفعنا وينفعنا.
فى إحدى الجلسات الهامة بالمحكمة العسكرية التى انعقدت لمحاكمة النقابيين الإخوان تذكرت واقعة خطيرة كانت قد حدثت عام 1995، كان النظام قد قبض على عدد كبير من الإخوان ما بين عامى 1995 و1996، وكان المقبوض عليهم من أعلى قيادات الجماعة، فمنهم عصام العريان وخيرت الشاطر وعبد المنعم أبو الفتوح وعبد الحميد الغزالى ولاشين أبو شنب وجمعة أمين ورشاد البيومى ومحمد حبيب ومحمود عزت ومهدى عاكف وإبراهيم الزعفرانى وسعد الحسينى وحسن الجمل والسيد النزيلى ومحسن راضى ومحيى الزايط وحلمى الجزار وأبو العلا ماضى وآخرون ،وأخذت هذه القضايا أرقام 8 و11 لسنة 1995 و5 لسنة 1996، وكان الدكتور محمد سليم العوا هو رئيس هيئة الدفاع ومعه مختار نوح الذى كان منسقا لهيئة الدفاع، وقتها قام الإخوان باستقدام عدد من المحامين الإنجليز لحضور جلسات المحاكمات بصفتهم مراقبين، وكان من حظى أن كنت مكلفا من الإخوان مع بعض المحامين الإخوان بمرافقة هذا الوفد، كان الدكتور العوا هو الشخص الوحيد الذى كان مؤهلا للتعامل مع هذا الفريق، أما نحن فقد كنا مجرد رفقاء طريق، فالدكتور العوا لديه كل تفصيلات القضايا حسب موقعه فى رئاسة فريق الدفاع كما أنه يجيد الإنجليزية إجادته للعربية، وفى هذه الفترة عرفت من خلال أحد الإخوة المقربين من الدكتور العوا أنه أى الدكتور العوا تدخّل سياسيًّا للصلح بين جماعة الإخوان والنظام، كان هدف الدكتور العوا من الوساطة للصلح أن يتيح للحركة الإسلامية مساحة كبيرة فى الحركة الدعوية، فالدعوة هى الوسيلة الإنسانية الرفيعة التى من شأنها الارتقاء بمفاهيم وقيم الناس، وترشيد سلوكياتهم، وبالدعوة تقوم الحضارات، فما من حضارة إلا ولها دعوة ودعاة.
طلب الدكتور العوا مقابلة اللواء عمر سليمان مدير المخابرات فحدد له الأخير موعدا، وفى الاجتماع عرض العوا الوساطة فى الصلح، فوافق عمر سليمان إلا أنه اشترط عدة شروط، منها أن يمتنع الإخوان عن خوض أى انتخابات نقابية أو برلمانية لمدة خمس سنوات، على أن يتيح لهم النظام مساحة حركة من خلال المساجد، فإذا وافق الإخوان على هذا الشرط يتم الإفراج عن كل المحبوسين الإخوان، كان هذا العرض مرضيا للدكتور العوا، ظن وقتها أن قيادات الإخوان ستوافق على هذا العرض وسترحب به أيما ترحيب، فهى فرصة نادرة لا تتكرر، وقبل أن يغادر العوا مكتب عمر سليمان قال له هذا الأخير: على فكرة يا دكتور.. الإخوان لن يوافقوا على هذا العرض، مأمون الهضيبى سيرفض بشدة… ويبدو أن الدكتور العوا أصابته حالة من الاندهاش عندما جاء له رد المستشار الهضيبى قاطعا برفض العرض!! كيف يرفض الهضيبى اتفاقا كهذا، ومن أنّى لعمر سليمان أن يعرف الرفض مسبقا!! إلا إذا كان صندوق الأسرار لا يزال يرفض البوح بأسراره.
جرت هذه الذكريات فى خاطرى وأنا فى المحكمة العسكرية أنتظر مع باقى المحامين مشاهدة شريط الفيديو الذى سجلته مباحث أمن الدولة للمتهمين لحظة القبض عليهم فى الاجتماع الذى عقدوه بالمعادى، انعقدت الجلسة برئاسة اللواء أحمد الأنور، وبعد الإجراءات القانونية الأولى تم استدعاء شاهد الإثبات الأول الذى كان ضابطا بمباحث أمن الدولة ومسؤول قسم الإخوان بالجهاز وكان اسمه الحركى عاطف الحسينى، وكان من المعروف عن عاطف الحسينى أنه يعرف كل كبيرة وصغيرة فى الإخوان ويحفظ وجوه أفرادهم فردا فردا، قام عاطف الحسينى بتشغيل شريط الفيديو وبدأت الصورة تظهر على شاشة التليفزيون، كانت الصور التى تتابعت هى صور بعض الإخوان وهم يدخلون إلى مقر الاجتماع، وطلبت المحكمة من الشاهد عاطف الحسينى أن يوقف الشريط عند كل فرد دخل إلى المكان ثم يقوم بالتعريف بهذا الشخص، وكانت المحكمة تستدعى كل متهم تعرَّف عليه الشاهد فى الشريط لتقوم بمناظرته، وظهر أن الشاهد يعرف الجميع.
هل تعرفون قصة المرشد السرى، ليس قصدى هنا مرشد جماعة الإخوان السرى، فقد تحدثت عنه بما فيه الكفاية فى الجزء الأول من كتابى، وأظن أن الحديث عنه أثار حالة من الجدل التاريخية، إثباتا أو نفيا، ولكن المرشد السرى هنا هو ذلك الأخ الإخوانى الذى قام بإبلاغ مباحث أمن الدولة عن هذا اللقاء، نعم فجهاز أمن الدولة وفقا لما قاله الدكتور محمد حبيب فى أكثر من لقاء استطاع اختراق الجماعة من أعلاها إلى أدناها، وكانت الشكوك قد حامت حول بعض الإخوة الذين تخلفوا فجأة عن حضور هذا الاجتماع الهام، فلربما قام أحدهم بالإبلاغ عن هذا اللقاء، أخذت الاتهامات تصيب الكثير من أفراد الجماعة من الذين كانوا يعرفون خبر هذا اللقاء، وكانت هذه الاتهامات والشبهات تزعزع الثقة فى كثير من الإخوة كما أنها كانت تصيب هؤلاء الإخوة بحالة من الغضب والإحباط، فما أقسى الاتهامات التى لا تكون بلا سند أو دليل.
إلا أن الشاهد عاطف الحسينى فى شهادته أمام المحكمة قال إنه اتفق مع مرشده السرى الإخوانى على حضور الاجتماع وجهزه بالتسجيلات اللازمة لتسجيل كل شاردة وواردة فى اللقاء، وكنا فى جلسة سابقة قد سمعنا التسجيلات، وبقى أن نعرف من هو المرشد السرى؟!
الدكتور عمرو عبد الإله البلبيسى، هو أحد الإخوان الفاعلين فى قسم النقابيين بالإخوان، وعندما بدأ المهندس أبو العلا ماضى فى تشكيل حزب الوسط أواخر عام 1995 انضم عمرو إلى الحزب، وبعد أن احتدمت الخلافات بين أبو العلا والإخوان طلب المستشار الهضيبى من كل الإخوان الذين كانوا قد حرروا توكيلات لوكيل المؤسسين أبو العلا ماضى أن يقوموا بإلغائها، فقام عمرو البلبيسى بإلغاء التوكيل فورا، لم يكن البلبيسى وحده هو من فعل ذلك ولكن كان معه فى ذلك صلاح عبد المقصود وجمال حشمت وغيرهم، الكل انساق خلف مأمون الهضيبى الذى كان يسوق الجماعة فتنساق له، وفى لقاء جمع أبو العلا ماضى بعمرو البلبيسى، بكى البلبيسى أسفًا على إلغاء التوكيل وقال: لم يكن لى حيلة فى ذلك، فرد عليه أبو العلا ردا قاسيا: يبدو يا دكتور عمرو أن قادة الجماعة قامت بعملية «إخصاء» لأفراد الجماعة الأمر الذى ترتب عليه فقدكم لرجولتكم!
كان الدكتور عمرو البلبيسى قد حضر لقاء النقابيين وانصرف منه قبل القبض على الإخوة بعشر دقائق، وكنا نعرف هذا الأمر، كان العجب يلفنا، لماذا لم يتم القبض على البلبيسى رغم أنه كان من الحاضرين، بل إن أحد من حضروا اللقاء كان قد انصرف هو الآخر إلا أن ضباط أمن الدولة قبضوا عليه قبل أن يركب مترو الأنفاق، وتم تقديمه فى القضية مع باقى المتهمين، بل إن الدكتور محمد بشر عضو مكتب الإرشاد لم يحضر اللقاء من الأصل ومع ذلك تم القبض عليه! فلماذا تم استثناء عمرو البلبيسى؟! كانت هذه الأفكار تباغتنى وأنا أشاهد شريط الفيديو مع باقى المحامين بجلسة المحكمة العسكرية، وكان عاطف الحسينى لا يزال يتوقف عند صورة كل متهم ليقوم بتعريفه، وفجأة ظهر على الشاشة صورة عمرو البلبيسى وهو يدخل المكان، ثم ظهرت بعد ذلك صورته وهو يغادر المكان قبل القبض على المتهمين بدقائق، طلب اللواء أحمد الأنور رئيس المحكمة، إيقاف الشريط عند صورة عمرو البلبيسى وقال للشاهد عاطف الحسينى: مَن هذا؟ هل تعرفه؟ هل هو من المتهمين؟ وهنا نظرتُ إلى وجه الشاهد الحسينى لأقرأه ثم نظرت إلى وجوه بعض المحامين من الإخوان لأترقب رد فعلهم، وجاءت إجابة عاطف الحسينى من أغرب ما يمكن.