نوارة نجم:
الواقع الجديد.. لماذا يصمت المصريون الآن على ما أغضبهم من مبارك وطنطاوي ومرسي؟
ربما لا يود بعض الرفقاء الاعتراف بوجود واقع جديد يجب التعامل معه بآليات مختلفة.
ربما يكون هذا الواقع على غير ما تشتهي الأنفس التي بذلت وضحت وسهرت.
ربما نكون قد ضُبطنا، مثل الراديو، على مؤشر يبث صوتا واحدا لا نريد تغييره.
قد أتفهم تلك الحالة، لكنني أحذر من الاستمرار فيها، لأنها لن تثمر فائدة، ولن تسفر عن تحقيق أهداف، وقد تحول بعضنا، أو جميعنا، إلى مجموعة من الدراويش، أو المهاويس، وقد نستمر في تقديم قرابين لآلهة صماء، لا تسمع دعاءنا، ولا تجيب نداءاتنا.
الواقع الجديد له مؤشرات عدة تجعلنا نتوقف أمامها في محاولة لفهمها، بدون تسفيه هروبي، أو تهويل يؤدي إلى اتهامات ظالمة وباطلة:
تم قطع الكهرباء عن مصر، بما في ذلك مدينة الإنتاج الإعلامي، وعانى أغلب سكان الجمهورية من قطعها لمدة وصلت إلى 12 ساعة في أغلب المناطق. لم يتحرك الناس، لم يبدوا أي تأفف يذكر، نزلوا إلى الشارع للتنزه والجلوس على الكورنيش- أي كورنيش في أي محافظة سواء كان نيليا أو بحريا- ثم عادوا إلى بيوتهم مع عودة التيار الكهربي، ومر الأمر بسلام.
يتملكني ظن بآن قطع التيار لكل هذه المدة كان متعمدا لدراسة رد فعل الناس، وجاء رد الفعل مأمولا للسلطة، مثيرا للتعجب لدى بعض الثوار، مؤججا للغيظ لدى جماعة الإخوان الذين طفقوا يرددون: "يعني مرسي كان بيقطع عليكم النور ساعة واحدة ما استحملتوهوش، وده قطع عليكم النور 12 ساعة ما اتكلمتوش يا شعب عبيد"!
قبل ذلك، تم رفع الدعم عن الوقود، وجاء رد فعل الناس هادئا، مما أثار تعجب الثوار مرة أخرى، وكان قد أثار غيظ الجماعة التي لا تنفك تقول: "واشمعنى؟ واشمعنى مرسي بقى؟ يا شعب عبيد".
بعد طرح أسهم مشروع قناة السويس الجديد، تدفق الناس لشراء الأسهم. سخر البعض وقالوا إن الناس اشترت الأسهم طمعا في الفائدة 12%!
ولو انهم يرغبون في الفائدة لاشتروا شهادات استثمار من البنك، ولو كان من طرح هذه الأسهم هو المعزول محمد مرسي لما وجد سوى جماعته تشتري أسهما لمساندته.
طيب. يبدو أن الناس هادئة وصابرة.
وهناك بعض الحقائق واجب توضيحها:
هذا الشعب لا يليق إطلاق عليه: شعب عبيد، أو شعب السيسي، أو عبيد البيادة، أو خلافه من المصطلحات التي تطلقها الجماعة غيظا من صبر الناس على السيسي بينما لم يصبروا على مرسي. فهو شعب قام بثورتين، أو انتفاضتين، أو موجتين من الثورة، لا يهم. المهم أنه ملأ الشوارع والميادين مرات عدة معبرا عن غضبه، عن رفضه، عن احتجاجه، عن مطالبه. ولم يخش السجن، أو القتل، أو التنكيل. ولم يكن يوما عبدا لأي شخص أو جهة. هؤلاء الناس مروا، في خلال ثلاث سنوات وتسعة أشهر، بتجارب عديدة، سعيدة ومريرة، إحباطات، تطلعات، تصورات، ثم تصورات مضادة، ارتباكات، ثم أخيرا: إجهاد مضن.
لا يصح أن نخادع أنفسنا وندعي بأن الناس قد تم تضليلهم عبر الإعلام، لأن الإعلام المصري أبدا لم يكن مهنيا في لحظة من اللحظات، أبدا لم يكن محايدا في لحظة من اللحظات، إلى الأبد كاذب ومضلل، والناس تعلم ذلك جيدا. ولا أذكر منذ وعيت على الدنيا أن الناس صدقوا الإعلام في أي مرحلة من مراحل حياتهم، لا قبل الثورة ولا أثناءها ولا بعدها. ولو أن الإعلام يحرك الناس، لما قامت ثورة 25 يناير، ولو أن الإعلام يحرك الناس، لما نزلوا بأعداد ضخمة أثناء مواجهات محمد محمود. ولو أن الإعلام يوجه الناس، لما انتخبوا جماعة الإخوان في البرلمان والرئاسة. ولو أن الناس الآن يرددون بعض مقولات الإعلام، فهذا ليس لأنهم يسلمون أنفسهم للإعلام وأكاذيبه بشكل أعمى، ولكن لآن هذه الأكاذيب، في هذه المرة بالتحديد، تحلو لهم، ويريدون أن يصدقوها، وربما يعلمون أنها أكاذيب، لكنها على هواهم.
لماذا؟
لماذا يبتلع الناس الآن ما لم يكونوا ليبتلعوه في فترة حكم مبارك أو طنطاوي أو مرسي؟ لماذا حتى حين يشعرون بالأسى لشخص مظلوم، يكتفون بقول: "ربنا يفك ضيقته"، ولا يتحركون له؟ لماذا يتحملون ضيق المعيشة والمصاعب؟
دعك من مهاويس السيسي، الذين يشبهون إلى حد كبير مهاويس مرسي، وجماعة آسفين يا ريس، وقد يشبهون بعض مهاويس الثورة أيضا، فلكل شخص ولكل فكرة مهاويس، وهذا حق أصيل للإنسان، إن أراد أن يتحول إلى مهووس فهو وشأنه. لكن لا تجعل هذا الهوس المتبادل على الشبكات العنكبوتية يعميك عن الناس الحقيقية التي تصادفها في الشارع، وفي العمل، وفي المواصلات العامة.
ودعك أيضا من التحليلات اللوذعية لجماعة الإخوان التي تتلخص في أن من لا يتحرك ضد السلطة مجرد مجموعة من شعب السيسي عبيد البيادة الكفرة الملاحدة الذين يكرهون الإسلام، لأنها ليست مجرد مجموعة، ولو أنها مجرد مجموعة، لظهر ذلك في الشارع الثوري، وكان الأجدر بالجماعة أن تعيد تقييم أدائها، وتسأل نفسها: "لماذا ظللنا نحظى بتعاطف الناس طوال 80 عاما، ينظرون إلينا بعين الشفقة كوننا مضطهدين، وحين أتيحت لهم الفرصة انتخبونا باكتساح في البرلمان، ثم أوصلونا إلى الرئاسة، وما إن مكثنا في سدة الحكم لمدة عام واحد، حتى انقلب علينا من انتخبونا، وامتلأوا بالكراهية والغل، ووصل بهم الأمر أن يروا جثث بعضنا ولا تتحرك إنسانيتهم؟ فالحل الأسهل أن تتهم الناس، لكنه لن يفضي إلى شيء. والحل الأصعب، والأصوب، أن تقيّم نفسك لتعرف كيف ربحت كل هذه الكراهية بجدارة؟
تبقى حقيقة واحدة: لا أحد يستطيع أن يجبر شعبا كاملا على اختيارات لا يرغبون فيها.
ويبقى تساؤلا: كيف يمكن للقوى الثورية، التي ترى أن الثورة قد تم إجهاضها، والافتئات على مطالبها، أن تتعامل مع هذا الوضع الذي لا يرضيها؟
ستبقى "القوى الثورية" على يسار أي سلطة، حتى لو كانت هذه السلطة منهم هم. وستبقى تشير إلى السلبيات والمثالب. وستبقى تقول كلمة الحق. وستبقى أيضا حقيقة هامة: الثورة يصنعها شعب، والثورة مش بالعافية.
وكفاية شتيمة في الشعب بقى.