عادل حمودة يكتب:
عثمان محمد عثمان.. وزير كينج كونح!
المفكر والمخطط الاشتراكي كفر بما آمن به .. وارتدي الديانة الرأسمالية الجديدة
كانت الراقصة الشهيرة تهز جسدها برشاقة وإثارة علي موسيقي نوبية اشتهر بها محمد منير حينما قرر عثمان محمد عثمان أن نترك صخب العرس الذي دعينا إليه في فندق خمس نجوم يطل علي النيل لنتكلم فيما جري لنا بعد رحلة عمر تمتد نحو أربعين عاما من أيام الجامعة إلي ذروة الحياة العامة.
وسط دردشة عابرة فيما جري وما كان قال جملة لا أنساها:"لقد حققنا ما كنا نحلم به لأنفسنا ولكننا لم نحقق ما كنا نحلم به للبلد.. نجحنا علي المستوي الشخصي.. وفشلنا علي المستوي العام".
لم أشأ أن أعكر صفو لحظة نادرة.. حرر فيها صديق قديم نفسه من سجنها.. وتركها تتحدث علي سجيتها.. معترفا بأن وصوله لمنصب الوزير نجاح شخصي.. لكنه.. فشل عام.
لم أشأ أن أسأله: ألم يضعك الحلم الشخصي الذي حققته في قمة سلطة تنفيذية تتيح لك تحقيق الحلم العام ولو بقدر بسيط؟.. لماذا تعتبر اختيارك لاعبا في الفريق القومي الحاكم هدفا في حد ذاته يجعلك تجلس خارج الملعب منتشيا بنفسك حزينا علي وطنك؟
إن الحلم عمل تحريضي من الطراز الأول.. وليس كرسيا هزازا.. يساعد علي الارتخاء.. ويجلب النعاس.. الحلم عمل من أعمال المعارضة لا الموافقة.. وكل محاولة لربطه بوظيفة حكومية تجعله حصانا في إسطبل السلطة.. وكلب حراسة علي باب السلطان.. وتجعل المسئول عنه سايسا أو كلافا مهما كانت درجته السياسية السامية.
لقد أعاد ساعي البريد الأحلام العامة لكثير ممن عبروها لأنهم نسوا عنوان الناس أو تناسوه.. وقفوا في قارة.. ووقف الشعب في قارة اخري.. وبينهما بحار من التعالي والغرور وجنون العظمة وسوء الفهم.
إن لا أحد يمنع حصانا من الركض والفوز في السباق.. هذا حق طبيعي لكل حصان يركض بمهارة وحضارة وبراعة.. لكن.. ما حدث أن بعض الخيول التي تسللت إلي الميدان لم تكن لتصلح إلا لجر عربات الكارو ونقل الخضار.. ومن كثرتها قضت علي السلالات الأصيلة.
كان عثمان محمد عثمان، يبدو لنا ونحن طلبة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في نهاية ستينيات القرن الماضي، شابا مجتهدا ملتزما متواضعا مبتسما لا نراه إلا وهو يحمل أوراقا وأبحاثا تشعرنا بأننا لا ندرس وإنما نعبث.. وضاعف من احترامنا له دراساته الجادة في تحديات الحل الاشتراكي المنشورة في مجلة الشباب الاشتراكي مما جعلنا نؤمن بأننا أمام مشروع وزير تخطيط سيغير وجه الحياة في مصر يوم يجلس علي مكتبه في "مدينة نصر".
وتحقق حلمه.. وحلمنا.. وأصبح "صاحبنا" وزيرا.. وفي وقت مناسب تحتاجه فيه البلد التي نسيت العدالة الاجتماعية ووقعت فريسة للرأسمالية الفاسدة.. وهجرت التسامح الديني إلي العنف الطائفي.. وبعد الاكتفاء الذاتي استسلمت للانكفاء الذاتي.. واحتلت العشوائية مناطق نفوذ الخطط الخمسية والسباعية والعشرية.. لكننا.. لم نيأس.. فقد وصل للمنصب المناسب عثمان محمد عثمان.. وزير مؤهل.. صعيدي.. ينتمي للسواد الأعظم من الشعب.. يستوعب ما يعانون.. ويشعر بما يتألمون.. ويجسد ما يحلمون.. سيكون مندوبهم وممثلهم ورسولهم والناطق بلسانهم في حكومة تفضل وزراء البان كيك والسيمون فيميه والبلاك جاك. لكن.. من كان منا أصبح علينا.. الفتي الصعيدي القادم من قرية "بني فيز" المجهولة والمعدومة في أسيوط اكتفي بأن يكون وجيها من وجهاء "البندر".. والمفكر والمخطط الاشتراكي البارع كفر بما آمن به وسعي إلي الديانة الرأسمالية الجديدة علي مذهب الإمام آدم اسميث.. والطالب متماسك الأعصاب أصبح شديد الغضب.. سريع الغلط.
عندما صرخ الناس من حرائق أسعار الخضراوات قال:"الفقراء مش لازم ياكلوا سلاطة".."ولو الخضار الفريش غالي ياكلوه مجمد".. فروزينج.. علي طريقة خالدة الذكر ماري أنطوانيت.. مفيش عيش.. إيه المشكلة.. ياكلوا جاتوه.
وفي المؤتمر السنوي (الثاني عشر) للإعلام الاقتصادي الذي نظمه المركز المصري للدراسات الاقتصادية في "موفنبيك" العين السخنة جرت مناقشة ساخنة بينه وبين زميل من زملاء الكلية وشريك في الأفكار اليسارية لم يتخل مثله عنها الدكتور جودة عبد الخالق.. قال عثمان محمد عثمان:"إن مخصصات الأجور في مصر زادت في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ".. فرد عليه جودة عبد الخالق: "نعم.. لكن الزيادة في هذه المخصصات ذهبت إلي رواتب الأمن المركزي الذي تستخدمه الحكومة في حماية النظام وقهر المعارضة".. وتكهرب الجو.. وعندما وصلت المناقشة حول معدل النمو شكك غالبية الحضور ومنهم الدكتورة عالية المهدي عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.. وحاول عثمان محمد عثمان أن يبيض وجه حكومته وعندما فشل انفعل قائلا: "يرتفع النمو والا انشا لله عنه ما ارتفع الحكومة بتعمل اللي عليها وبتجذب استثمارات".
وفي ثورة الغضب سمع من جودة عبد الخالق ــ حسب شهادة محررتنا الاقتصادية سناء عبد الوهاب ــ"إن أوضاع البلد حاليا تشبه الحطب الجاف الذي ينتظر عود كبريت لتشتعل الحرائق".. فرد عليه عثمان محمد عثمان: "إحنا معندناش حطب ولا نخشي من عيدان الكبريت".
قبل ذلك وخلال الأزمة العالمية الأخيرة كان مسئولا عن المعلومات الاقتصادية للحكومة خرجت في نشرة شهرية صادرة عن ما سمي بالمرصد الاقتصادي للأزمة.. لكن.. تلك المعلومات كانت انتقادا لم يتوقف.. انتهي بوصفه بالمحلل.. دون تفرقة واضحة بين محلل الأرقام ومحلل الزواج بعد الطلاق بالثلاثة.
وبعد الحكم القضائي برفع الحد الأدني للأجور إلي 1200 جنيه أصر علي أن يصدر المجلس الأعلي للأجور قرارا بألا يزيد الحد الأدني عن 400 جنيه.. وغضب ممثلي العمال.. وتنصل رجال الأعمال.. فهم يدفعون ضعف الرقم حدا أدني.. ولا يجوز التحجج بهم.. فلم يجد الوزير سوي أن يصرح علي طريقة شعبان عبد الرحيم.. محدش يتكلم عن الفقراء.."أنا أعرف الفقراء واحد واحد بالاسم".. ايه.. ايه.
شيء محزن أن تعرف عثمان "محمد" عثمان ثم تكتشف بعد سنوات طويلة أنه كان في الحقيقة عثمان أحمد عثمان.. ولا أقول مرجان أحمد مرجان.. وأخشي عليه من أن يخرج من الوزارة ويجهز علي ما تبقي من حلمه الشخصي فيمشي في الشوارع وهو يردد علي طريقة أبو الليف: أنا مش خرونج أنا كينج كونج.