لماذا نحب مصر؟؟
د. أسامة الأزهري
روي البخاري وابن حبان والترمذي من حديث أنس- رضي الله عنه- أن النبي- صلي الله عليه وسلم- كان إذا قدم من سفر فنظر إلي جدرات المدينة أوضع راحلته, وإن كان علي دابة حركها من حبها), ففي هذا الحديث الجليل تصرف نبوي هاد,
محفوف بالعصمة, ومنزل بالوحي, تحرك به الجنان النبوي الشريف, ومن ورائه الإلهام الصادق, والوحي المبين, بحنين القلب إلي الوطن, ونزوع الفؤاد إليه, حتي إن كان صلي الله عليه وسلم ليحرك دابته إلي المدينة المنورة إذا رجع من سفره, وأبصر جدرانها, من حبها وحنينه إليها, قال الحافظ ابن حجر في
فتح الباري)
وفي الحديث دلالة علي فضل المدينة, وعلي مشروعية حب الوطن, والحنين إليه).
ولقد فطر الله تعالي الخلائق جميعا علي الميل الفطري الحنيف إلي أوطانها, وأودع سبحانه في الفطر النقية من سائر الموجودات قرارا وسكونا وانشراحا إلي الوطن, حتي إن المتأمل ليجد ذلك في سائر أجناس الوجود, فالآساد والأشبال تأوي إلي عرينها, والإبل تحن إلي أعطانها, والنمل يحن إلي قراه, والطيور تهوي وتميل إلي وكناتها, والإنسان مجبول علي شدة الحنين إلي الوطن, حتي قال ابن الجوزي رحمه الله في
مثير الغرام الساكن)
او الأوطان أبدا محبوبة)
فإذا كانت أجناس الوجود كلها من حولنا رغم أنها عجماء لا تفصح ولا تبين, قد تبين من ملاحظة طباعها وأحوالها شدة وفائها وحنينها إلي أوطانها, فالإنسان أولي بذلك منها, لما يمتاز به عنها من الكمالات الإنسانية, التي تجمله محلا لكل خلق كريم, والوفاء والمروءة علي رأس تلك الشمائل, حتي قال أحمد شوقي رحمه الله:
وللأوطان في دم كل حر*** يد سلفت ودين مستحق
ولم يزل الشعراء يبكون ويستبكون, وتجيش منهم الخواطر, وتتحدر منهم روائع البيان في الإعراب عن شدة الحنين والشوق إلي الأوطان, حتي إن الباحث المتتبع ليظفر من منثور أشعارهم بما يوفي ديوانا جليلا, وسفرا كبيرا نبيلا, في الأشعار الفائقة, والأبيات الرائقة, المعبرة عن شدة فراق الأوطان, علي وجدان الإنسان, بل ربما ترنم بعضهم بشدة الحنين إلي بقاع, هواؤها غير طيب, وماؤها غير عذب, ولا تطيب فيها أسباب الإقامة, ولكنها من وراء ذلك وطن, وحب الوطن يغلب ذلك جميعا, فقال الشاعر:
بلاد ألفناها ولم تك مألفا*** وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن
وقد تؤلف الأرض التي لم يطب بها*** هواء ولا ماء, ولكنها وطن
ولأجل هذا الباعث الفطري الكامن في أعماق الإنسان, فقد عظم الله تعالي شأن الهجرة والمهاجرين, لما اشتملت عليه من مشقة علي النفس, ومكابدة لها, بالصبر علي فراق الأوطان, فلأجل هذا رتب الله تعالي علي الهجرة من الفضل والثواب ما هو مذكور في القرآن الكريم في غير موضع, وللإمام الفخر الرازي ملمح لطيف في تقرير حب الوطن, وأنه داع فطري شديد العمق في النفس; أشار إليه عند تفسير قوله تعالي
ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم)( سورة النساء, آية66), فقال
جعل مفارقة الأوطان معادلة لقتل النفس).
ومن ثم فإن كل آية أو حديث يظهر فضل الهجرة فإنه يرجع إلي هذا الأصل, والذي هو شدة الصبر ومغالبة النفس, علي فراق الأوطان المحبوبة, إيثارا لمعني من المعاني الشريفة, فكم لهذا المعني من قدر, حتي تصبر النفس علي تلك المشقة العظيمة لأجله.
بل لقد ذهب الفقهاء إلي تعليل حكمة الحج وعظمة ثوابه إلي أنه يهذب النفس بفراق الوطن, والخروج علي المألوف, قال الإمام القرافي في
الذخيرة)
ومصالح الحج: تأديب النفس بمفارقة الأوطان).
وما زال الصالحون يلهجون بمحبة الأوطان, حتي لقد روي أبو نعيم في
حلية الأولياء) بسنده إلي سيد الزهاد والعباد إبراهيم بن أدهم أنه قال
ما قاسيت فيما تركت شيئا أشد علي من مفارقة الأوطان).
وقد قدمت كل ما سبق, من كلام النبوة, وعبارات العلماء الكبار, لألفت نظر القراء جميعا إلي أن حبنا لهذا الوطن المصري العريق الكريم من أكمل الشمائل, ومن جملة خصال الإيمان, وأن الإنسان الصادق يقوده دينه وخلقه حتما إلي إجلال وطنه, والسعي في صدق النصيحة لأبنائه جميعا علي اختلاف أطيافهم وتياراتهم, ونسأل الله تعالي بواسع كرمه وجوده أن يحفظ مصر بحفظه الجميل, وأن يبارك فيها وفي شعبها الكريم, وأن يفتح لهم بركات من السماء والأرض, وأن يحفظ أزهرها الشريف, حصن الإسلام, وكعبة العلم, إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.