فى مدخل مدينة شين الكوم بالقرب من مستشفى القصرتمثال يعلوه الغبار لرجل بلباسه العسكرى نمر عليه كثيرا من يعرفه قد يترحم عليه اذا اسعفه الوقت وقد ينسى فى زمن ننسى فيه كل شئ حتى هؤلاء الذين صنعوا لنا تاريخا نفخر به و جلبوا لنا بدمائهم و عرقهم و بطولاتهم مجدا طالت به اعناقنا حتى وصلت عنان السماء .... ومن لا يعرفه من الجيل الجديد يمر عليه مرور الكرام دون ان يكلف نفسه عناء التطلع اليه او السؤال عن من يكون هذا الرجل ولماذا صنعوا له هذا التمثال ... ما الذى فعله حتى يستحق هذا التكريم .
انا هنا يا سادة احاول ان القى بعض الضوء على رجل ليس كمثل الرجال ... فى زمن عز فيه الرجال .
............................................
بساطة الفلاح وعظمة الجنرال المنتصر هما وجهان لعملة واحدة لم يعرف المشير الجمسي غيرهما في حياته الطويلة التي لم يكن فيها سوى فلاح أو جنرال؛ ففي نهاية عام 1921 ولد الطفل محمد عبد الغني الجمسي لأسرة ريفية كبيرة العدد فقيرة الحال يعمل عائلها في زراعة الأرض في قرية البتانون بمحافظة المنوفية، ولفقر الأسرة المدقع كان الوحيد من بين أبنائها الذي حصل تعليما نظاميا قبل أن تعرف مصر مجانية التعليم، ولعب القدر دوره في حياة الجمسي بعد أن أكمل تعليمه الثانوي، حينما سعت حكومة مصطفى النحاس باشا الوفدية لاحتواء مشاعر الوطنية المتأججة التي اجتاحت الشعب المصري في هذه الفترة؛ ففتحت -لأول مرة- أبواب الكليات العسكرية لأبناء الطبقات المتوسطة والفقيرة التي كانت محرومة منها، فالتحق الجمسي ولم يكن قد أكمل السابعة عشرة بالكلية الحربية مع عدد من أبناء جيله وطبقته الاجتماعية الذين اختارهم القدر لتغيير تاريخ مصر؛ حيث كان من جيله جمال عبد الناصر، وعبد الحكيم عامر، وصلاح وجمال سالم، وخالد محيي الدين... وغيرهم من الضباط الأحرار، وتخرج فيها عام 1939 في سلاح المدرعات، ومع اشتعال الحرب العالمية الثانية ألقت به الأقدار في صحراء مصر الغربية؛ حيث دارت أعنف معارك المدرعات بين قوات الحلفاء بقيادة مونتجمري والمحور بقيادة روميل، وكانت تجربة مهمة ودرسا مفيدا استوعبه الجمسي واختزنه لأكثر من ثلاثين عاما حين أتيح له الاستفادة منه في حرب رمضان.
وعقب انتهاء الحرب واصل الجمسي مسيرته العسكرية؛ فتلقى عددا من الدورات التدريبية العسكرية في كثير من دول العالم، ثم عمل ضابطا بالمخابرات الحربية، فمدرسا بمدرسة المخابرات؛ حيث تخصص في تدريس التاريخ العسكري لإسرائيل الذي كان يضم كل ما يتعلق بها عسكريا من التسليح إلى الإستراتيجية إلى المواجهة. فكان الصراع العربي الإسرائيلي هو المجال الذي برع فيه الجمسي، وقضى فيه عمره كله الذي ارتبطت كل مرحلة فيه بجولة من جولات هذا الصراع منذ حرب 1948 وحتى انتصار 1973، وحتى بعد اعتزاله للحياة العسكرية ظل مراقبا ومحللا للوضع المشتعل، مؤمنا بأن أكتوبر ليست نهاية الحروب، وأن حربا أخرى قادمة لا محالة؛ لأن مواجهة مصيرية لا بد أن تقع، وأن الانتفاضة الفلسطينية هي السلاح الأفضل والأنجع حاليا لضرب العدو الصهيوني، ولا بد من تدعيمها بكل ما نملك.
وكانت هزيمة يونيه 1967 بداية تصحيح المسار في مواجهة آلة الحرب الصهيونية؛ حيث أسندت القيادة المصرية للجمسي مهام الإشراف على تدريب الجيش المصري مع عدد من القيادات المشهود لها بالاستقامة والخبرة العسكرية استعدادا للثأر من الهزيمة النكراء، وكان الجمسي من أكثر قيادات الجيش دراية بالعدو، فساعده ذلك على الصعود بقوة، فتولى هيئة التدريب بالجيش، ثم رئاسة هيئة العمليات، ورئاسة المخابرات الحربية، وهو الموقع الذي شغله عام 1972، ولم يتركه إلا أثناء الحرب لشغل منصب رئيس الأركان.
كشكول الجمسي
لم يضيع الجمسي يوما واحدا؛ فبدأ الاستعداد لساعة الحسم مع العدو الصهيوني، فكان لا يتوقف عن رصده وتحليله وجمع كل المعلومات عنه، وعندما تم تكليفه مع قادة آخرين بإعداد خطة المعركة أخذ يستعين بكل مخزون معرفته، وبدأ تدوين ملاحظاته عن تحركات الجيش الصهيوني، وتوقيتات الحرب المقترحة، وكيفية تحقيق المفاجأة. وللحفاظ على السرية التامة دوَّنَ كل هذه المعلومات السرية في الشيء الذي لا يمكن لأحد أن يتصوره؛ فقد كتب الجمسي كل هذه المعلومات في كشكول دراسي خاص بابنته الصغرى؛ فلم يطلع عليه أو يقرؤه أحد إلا الرئيس المصري أنور السادات والسوري حافظ الأسد خلال اجتماعهما لاتخاذ قرار الحرب!
واختار القائد المصري المحنك توقيت الحرب بعناية بالغة: الساعة الثانية ظهرا من يوم السادس من أكتوبر 1973 الموافق العاشر من رمضان 1393، وهو أنسب توقيت ممكن للحرب؛ نظرا لوجود 8 أعياد يهودية وموافقته لشهر رمضان. ولأن التنسيق بين الجيشين المصري والسوري كان من أصعب مهام الحرب، ويحتاج إلى قائد من طراز فريد؛ لم يكن هناك أفضل من الجمسي.
ساعات عصيبة
عاش رئيس هيئة العمليات المسئول الأول عن التحركات الميدانية للمقاتلين ساعات عصيبة حتى تحقق الانتصار، لكن أصعبها تلك التي تلت ما عرف بثغرة الدفرسوار التي نجحت القوات الصهيونية في اقتحامها، وأدت إلى خلاف بين الرئيس السادات ورئيس أركانه وقتها الفريق سعد الدين الشاذلي الذي تمت إقالته على إثرها ليتولى الجمسي رئاسة الأركان، فأعد على الفور خطة لتصفية الثغرة وأسماها "شامل"، إلا أن السادات أجهضها بموافقته على فض الاشتباك الأول عقب زيارة وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر للقاهرة!
وبانتهاء المعركة وتكريم اللواء الجمسي، وترقيته إلى رتبة الفريق، ومنحه نجمة الشرف العسكرية.. لم تنته الساعات العصيبة في حياة الجمسي؛ فقد عاش ساعات أقسى وأصعب؛ هي ساعات المفاوضات مع عدو ظل يقاتله طيلة أكثر من ربع قرن.
دموع وندم
اختار السادات الفريق الجمسي ليتولى مسئولية التفاوض مع الإسرائيليين فيما عرف بمفاوضات الكيلو 101، وكقائد تجري دماء العسكرية في دمه نفذ الجمسي أوامر القيادة التي يختلف معها، وإن كان قد قرر ألا يبدأ بالتحية العسكرية للجنرال "ياريف" رئيس الوفد الإسرائيلي، وألا يصافحه، وهذا ما حدث فعلا. وبدا الرجل مفاوضا صلبا مثلما كان عسكريا صلبا، حتى جاءت أصعب لحظات عاشها الفريق في حياته كلها، لحظات دفعته -لأول مرة في حياته العسكرية- لأن يبكي! كان ذلك في يناير 1974 عندما جلس أمامه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر ليخبره بموافقة الرئيس "السادات على انسحاب أكثر من 1000 دبابة و70 ألف جندي مصري من الضفة الشرقية لقناة السويس!! فرفض الجمسي ذلك بشدة، وسارع بالاتصال بالسادات الذي ما كان منه إلا أن أكد موافقته؛ ليعود الرجل إلى مائدة التفاوض يقاوم الدموع، ثم لم يتمالك نفسه فأدار وجهه ليداري دمعة انطلقت منه حارقة؛ حزنا على نصر عسكري وأرواح آلاف الرجال تضيعها السياسة على موائد المفاوضات. وكانت مفاجأة لهنري كيسنجر أن يرى دموع الجنرال الذي كثيرا ما أسرّ له القادة الإسرائيليون بأنهم يخشونه أكثر مما يخشون غيره من القادة العسكريين العرب.
وحين سئل عن القرار الذي ندم عليه في حياته صمت للحظات وقال بأسي: "اشتراكي في التفاوض مع اليهود".
آخر وزير حربية
بعد الحرب مباشرة رُقي الفريق الجمسي إلى رتبة الفريق أول مع توليه منصب وزير الحربية عام 1974 وقائد عام للجبهات العربية الثلاث عام 1975، وواصل أثناء توليه للوزارة استكمال تدريبات الجيش المصري؛ استعدادا للمعركة التي ظل طوال حياته يؤمن بها، وكان قرار السادات بألا يخرج كبار قادة حرب أكتوبر من الخدمة العسكرية طيلة حياتهم تكريما لهم، إلا أن السياسة أفسدت هذا التكريم؛ فقد تزايدت مساحة الخلاف بين الجمسي والسادات بعد مبادرة الأخير بالذهاب إلى إسرائيل عام 1977.
وتطورت الأحداث بما أدى لخروج الجمسي من وزارة الحربية عام 1978، واختلف الناس حول أسباب هذا الإبعاد، ولكن ظل السبب الأرجح هو رفض الجمسي نزول الجيش إلى شوارع مصر لقمع مظاهرات 18 و19 يناير 1977 الشهيرة، فأسرّها السادات له، وكان قرار قبوله التقاعد بناء على طلب الجمسي، وتغير اسم وزارة الحربية إلى وزارة الدفاع. إلا أنه رقي عام 1979 إلى رتبة المشير، وحين خرج للحياة المدنية كان أول قرار له هو رفض العمل بالسياسة، وظل محافظا على ذلك، وكان دائما ما يردد: إن الرجل العسكري لا يصلح للعمل السياسي، وإن سبب هزيمتنا عام 1967 كان بسبب اشتغال وانشغال رجال الجيش بالألاعيب في ميدان السياسة؛ فلم يجدوا ما يقدمونه في ميدان المعركة.
النحيف المخيف
خرج المشير الجمسي من الحياة العسكرية، لكنه ظل محتفظا بنفس التقاليد الصارمة من الالتزام والانضباط والتزام الصمت بعيدا عن الأضواء، وحين بدأت موجة الكتابة عن حرب أكتوبر تنتشر في مختلف أنحاء العالم، كانت المعلومات تتكشف تدريجيا عن دور الرجل في الحرب، وتعددت معها الألقاب التي أطلقت عليه؛ فجرت المقارنة بينه وبين الجنرال الألماني الأشهر روميل؛ فسمي "ثعلب الصحراء المصري"؛ نظرا لبراعته في قيادة معارك الصحراء، ولُقب بأستاذ المدرعات التي احترف القتال في سلاحها منذ تخرجه في الكلية الحربية.. أما أحب الألقاب إلى قلبه فكان لقب "مهندس حرب أكتوبر"؛ نظرا لاعتزازه بالحدث وفخره به.
إلا أن أغرب الألقاب التي أُطلقت على المشير الجمسي؛ فكان ذلك الذي أطلقته عليه جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل إبان حرب أكتوبر، حين وصفته بـ"الجنرال النحيف المخيف".
وداع صامت
وفي صمت رحل المشير الجمسي بعد معاناة مع المرض؛ العدو الوحيد الذي لم يستطع قهره، فرفع له الرايات البيضاء ؛ استجابة لنداء القدر، وصعدت روحه إلى ربه في 7-6-2003 عن عمر يناهز 82 عاما، عاش خلالها حياة حافلة بالانتصارات والنياشين والأوسمة التي تجاوز عددها 24 وساما من مصر و مختلف دول العالم ودعته مصر فى جنازة مهيبة حضرها كبار رموز الدولة والعسكرية المصرية تكريما ووفاء لذكرى الرجل.. رجل كانت كلماته الأخيرة "انتصار أكتوبر هو أهم وسام على صدري، وليتني أحيا لأقاتل في المعركة القادمة"!