حدث ذات ثورة!
بلال فضل
يومها لم يصدق إحسان عبدالقدوس نفسه عندما اكتشف أن الرقابة منعت مقالا هاجم فيه علي ماهر أول رئيس وزراء بعد ثورة يوليو معتبرا أنه تجاوز بحكم السن القدرة على الإستجابة الواضحة لمتطلبات ثورة شعبية، أسرع إحسان للقاء جمال عبدالناصر شاكيا له الرقيب الذي رفض التصريح له بمقال «لا أبغي به سوى مصلحة الملايين التي سهرنا الليالي معا نحلم بتحقيق العدل لها»، لكن رد عبدالناصر فاجأه «الرقيب مظلوم..أنا الذي رفضت المقال لأن هيبة الحاكم تحتم عليّ أن أمنع نشره».
يقول احسان في حوار مع الكاتبة أميرة أبو الفتوح ستجد نصه في كتابها الجميل (إحسان عبدالقدوس يتذكر): «لم أفهم ساعتها ماذا يقصد جمال، لقد اعتدت أن ألقاه لقاء ثائر بثائر، إن تكن وسيلة التعبير عن الثورة قد فرقت بينهما، فقد جمع بينهما الإيمان بالحرية»، أخذ جمال يفسر لإحسان قراره فحيّره أكثر: «أنا واثق من اخلاصك ومتفق معك في أن علي ماهر يجب أن يذهب، لكن حرصي على الثورة يحتم علي منع المقال لأنني لا أريد أن أرسخ في أذهان الشعب أن هناك من يقترح على الثورة فتنفذ اقتراحه، حتى لو كان هو عين الصواب، لا أريد أبدا أن يتصور الناس أن هناك وصاية على الثورة».
لم يكن احسان وقتها كاتبا عاديا، بل كان كاتب الثورة الأول الذي ينظر لها بمقالاته، لكن ضميره جعله حريصا منذ أغسطس 1952 على التحذير من مواكب النفاق التي بدأت تروج لفكرة المستبد العادل، وكتب محذرا من خطورة مجيئ رئيس جمهورية له سلطات ملكية، ودعا إلى الغاء الأحكام العرفية ورفع الرقابة على الصحف، ومع أنه طالب قادة الثورة كثيرا بترك الجيش وتشكيل حزب يمثل الثورة، لكنه عندما تم تشكيل هيئة التحرير، ورأى ملامح الحزب الواحد تتشكل، أحس بأن الحرية قضية عمره معرضة للخطر، ولذلك توسع في دعوته إلى الحرية النيابية وكتب سلسلة مقالات كان أشهرها مقاله التاريخي (الجمعية السرية التي تحكم مصر) صارخا بعزم ما فيه في إحدى مقالاته «لا يمكن أن تتجه الثورة إلى اقامة ديكتاتورية عسكرية، وكل من حاول توجيه الثورة إلى هذا الإتجاه غبي لا يفهم ولن تنتهي محاولته إلا إلى كارثة»، وقادة الثورة كافأوا احسان على دعمه لهم وعلى نصائحه هذه باعتقاله في ابريل 1954، حيث وجد نفسه مرميا في الزنزانة رقم 19 في السجن الحربي بتهمة قلب نظام الحكم، دون تحقيق قانوني وبأمر من الذين كانوا يعتبرونه شريكا في الثورة لكنهم لم يتسامحوا مع خروجه عن الخط المرسوم له.
يومها قررت والدة إحسان السيدة الجليلة روز اليوسف أن تدافع عن حرية ابنها بطريقة مبتكرة، حيث قاطعت أخبار ثورة يوليو كأنها لم تقم أبدا، لم تكن متألمة من أجل ابنها فقط، بل لأنها كانت تدرك خطورة ما يجري على مصر كلها، خاصة أنها كانت قد نشرت بتاريخ 11 مايو 1953 خطابا مفتوحا لعبدالناصر تحت عنوان طويل هو «الحرية هي الرئة الوحيدة التي يتنفس بها الشعب.. إنك في حاجة إلى الخلاف تماما كحاجتك إلى الاتحاد»، يومها رد عبدالناصر عليها بخطاب قال فيه أنه يخشى من تكرار مأساة الحرية التي كانت قائمة قبل الثورة حين كانت الحرية سلعة تباع وتشترى. حاول عبدالناصر فك مقاطعة روز اليوسف للثورة بدعوتها لزيارة مجلس قيادة الثورة لكنها رفضت بكل إباء، وبدأت تشن حملة غير مباشرة على النظام بنشر موضوعات تاريخية عن قراقوش وهتلر وأشهر أعداء الحرية في تاريخ الإسلام، وعندما أرسل عبدالناصر من يتفاوض معها لرفع الحظر عن أخبار الثورة رفضت وقالت: آسفة لن أكتب حرفا واحدا عنكم ولو أعدمتم ولدي.
بعد 95 يوما في السجن خرج احسان من زنزانته ليعود إلى بيته دون أن يفهم لماذا أفرجوا عنه ولا لماذا اعتقلوه، وحين عاد إلى بيته كانت أول مكالمة يتلقاها من عبدالناصر الذي بدأ كلامه بسؤال ضاحك وصادم «هه..اتربيت ولا لسه يا احسان؟»، ثم دعاه إلى سلسلة غداءات قال له فيها أنه يهدف إلى علاجه نفسيا من آثار سجنه، لكن سلسلة الغداءات لم تغير من موقف إحسان بل زادت من قوته في الدفاع عن الحريات حتى وصلت إلى مداها بشجبه للإعتداء على عبدالرازق السنهوري خلال أزمة مارس، ليعود إحسان إلى السجن الحربي متهما بقلب نظام الحكم ومواجها باعتراف ملفق من ساعي في روز اليوسف بأنه حمله شحنة من الأسلحة لتسليمها إلى مجهول، وقبل أن يكمل احسان يومه الأول في السجن فوجئ بمدير السجن يطلب منه أن يرد على مكالمة جاءته اتضح أنها من عبدالناصر الذي اعتذر له وأعطاه عبدالحكيم عامر ليعتذر له قائلا أنه لم يكن يعرف بما حدث وأنه أمر بالإفراج الفوري عنه.
عاد احسان إلى بيته مذهولا من تعرضه لهذه المهانة وأخذ يسأل نفسه عما كان سيحدث له لو كان مواطنا عاديا لا تربطه علاقة بقائد الثورة، يقول إحسان «وزاد من احساسي بالمأساة القادمة في الطريق أننا لم نكن وقتها قد جاوزنا العام الثاني من عمر الثورة التي قامت لتحرير الإنسان المصري من كل قيد، ولكي ترد للمواطن المصري احساسه بالكرامة التي طالما اعتدى عليها الثالوث الحاكم قبل الثورة، وإذا كانت هذه هي حال الحرية ومدى احترامها والحفاظ عليها، ونحن في بداية الطريق الثوري فما الذي ستنتهي إليه الأحوال بعد عشرة أعوام؟».
لعلك الآن تعرف الإجابة على سؤال إحسان وما الذي انتهت إليه الأحوال بعد 13 عاما من سؤاله؟، وتعرف كيف ظلت مصر منذ ذلك الوقت تتخبط بين لحظات من الأمل وسنين من الآلام، لذلك يبقى أن تعرف لرجلك قبل الخطو موضعها، وتتذكر دائما عاقبة التفريط في الحرية تحت أي مبرر، وتترك تجارب الماضي القريب لكي تنبهك باستمرار إلى أن الحذر خير من الثقة المطلقة، والتعقل خير من التهليل، والمية تكدب الغطاس، والثورة تكدب الهجاص.