هل أتاك نبأ حسن البنا الذي فيه يختلفون ،هو ذلك الصبي الغض الذي لم يكن كمثله من الأطفال ،يسعى إلى تقليد الكبار ويهجر ملاعب الصبيان ،ثم هو ناشئ الفتيان الذي لم يستكمل حفظ القرآن ونفض يده من الكُتَّابِ ليسعى بين أهل بلده بالنصح والوعظ بنزق الصغار وخفة الغلمان ، ثم هو ذلك الفتى الذي اتجه إلى المدارس المدنية ورفض الجامعة الأزهرية صاحبة العلوم الدينية ، وهو الفتى الصوفي الذي كانت للطريقة الحصافية أثرها الكبير في منطقه الحركي ، وهو الشاب الذي التحق بدار العلوم وتفوق فيها ثم تخرّج منها مدرسا للخط العربي ، ثم استوى على سوقه فأنشأ جماعة الإخوان المسلمين فكانت الجماعة هو وكان هو الإخوان .
عبر تاريخي كله قرأت ـ وأزعم أنني فعلت ـ كل ما أخرجته المطابع عن حسن البنا ، أحببت هذا الرجل وشغفت به وبفهمه وفتتت كبدي نهايته المأساوية إلا أنني بعد سنوات من القراءة والبحث كنت أمج مغالاة الغالين وأكره أيضا إجحاف المجحفين ،ولا أنزه نفسي عن أنني كنت في الفترات الأولى من حياتي قد وضعت الرجل في مكانة أولياء الله الصالحين الصديقين الذين لم يقترب الخطأ من حياضهم أبدا،بهرني بذاكرته وفراسته وشدته على نفسه في العبادة حتى قلت في نفسي إن هذا رجل لم يقع في هفوة قط وكأنه أرقى من الصحابة أجمعين !!! ولعل الحب ومراتب الهوى هي التي جعلتني من المشدودين للبنا والمشدوهين به … إلا أنني بعد أن استقام عودي أدركت أن الإنصاف للرجل إنما يكون بتأديمه ” أي رده إلى آدميته ” فالآدمية ـ لا الملائكية ـ هي التي ترفع قدره ، وإذا كان الله قد خلقنا من طين فلا ينبغي أن نحوِّل أنفسنا أو نحوِّل من نحبهم إلى ملائكة نورانيين ، وتنزيه البشر إنما يكون بتعديد معايبهم وإبعادهم عن الكمال لأن الإقرار بنقائصنا هو في ذاته الإقرار بكمال الله .
ما زالت شوارع المحمودية تذكر حسن البنا ذلك الصبي النحيف الذي كان يصطحب معه بعضا من أترابه الصبيان حيث يضمرون في أنفسهم أمرا ثم يذهب أحدهم إلى صاحب حانة تبيع لروادها أصناف الخمور ، ويذهب الآخر لمرابي يقرض بالربا ، ويذهب ثالث لرجل سيء السمعة ، وهكذا حتى يكتمل عقد ما انتووا عليه فيدس كل واحد منهم خلسة وفي غفلة من الناس خطابا لمن ذهب إليه ، وحين يعثر أولئك الغافلين على الخطابات فيجدونها نصيحة إسلامية موجهة إليهم من مجهول يُذكِّرهم بالحرام والحلال وتحريم الله ما يفعلونه وعقوبة من يجترأ على حدود الله ،وفي نهاية الخطاب يجد القارئ تهديدا موجها له بالويل والثبور وعظائم الأمور إن لم يرتدع .
كان الغلام حسن البنا يتنفس أكسجين الحماسة للإسلام والغيرة على حرماته ،إلا لأن شخصيته أُشربت روح الزعامة فإنه كان يشعر وكأنه هو المهدي المنتظر ، وكأنه هو الذي أرسله الله على رأس مائة عام كي يجدد للأمة أمر دينها ، فأوقف نفسه وحياته ومشروعاته وطموحاته على الدعوة لله ، هو الدعوة والدعوة هو لا فرق بينهما في اعتقاده ،وكان السؤال الذي يتردد في ضميره دائما هو:هل تنفصل الدعوة عن الداعية؟ وحين أجاب عن هذا السؤال بعد سنوات طويلة كان ذلك عن طريق كتابه الوحيد الذي جعل عنوانه ” مذكرات الدعوة والداعية ” .
نظر الصبي حسن البنا حوله يبحث عن طريقة إسلامية تُشبع ذاته فالتمسها في الطريقة الحصافية الصوفية فانخرط فيها ونهل منها ثم أخذ الصبي حسن البنا ـ وهو في سن المراهقة ـ عهد الطريقة الحصافية على يد شيخها عبد الوهاب الحصافي الذي سمح له بعد أخذ العهد بالقيام بأدوار الحضرة ووظائفها بمسجد التوبة بدمنهور.
كانت الطريقة هي بداية الطريق للبنا تعلم من شيخها وأخذ من شيوخها حلمي زكريا وحسن خزبك وغيرهما ، ومنهم عرف التنظيم وآلياته والسمع والطاعة والثقة في الشيخ ، وأدرك أن وسيلته في إقامة تنظيم قوي محكم يدين له بالولاء لا تكون إلا بطاعة الأعضاء كما يطيع المريد شيخه ، ففي الصوفية يكون المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي من يغسله يقلبه كيف يشاء وهكذا أصبح البنا في مقتبل أيامه وهكذا أصبح الإخوان بين يدي البنا.
استمر البنا في الطريقة الحصافية لم يغادرها بروحه وإن غادرها بجسده وكان قبلها قد انقطع عن استكمال حفظ القرآن إذ توقف عن هذا وهو في الرابعة عشر من عمره رغم أنه كان يتمتع بذاكرة لاقطة قوية ولكن البنا وجد أن طريق العلم والفقه ليس هو طريقه ولكن طريقه ـ كما كان يقول ـ هو صناعة الرجال ، كان من الممكن أن يقتفي أثر أبيه في علوم الحديث ولكنه كان يتنقل بين كل العلوم فيأخذ من كل علم قطفة تكون هي زاده فيما انتوى عليه ، وكان مما قاله لي بعض ممن صاحبوه: إن البنا رفض أن يؤلف الكتب لأنه كان يريد أن يؤلف الرجال وهذا هو ما نجح فيه .
وفي القاهرة كانت محطته التالية حيث التحق بمدرسة دار العلوم ،ولأنه كان صاحب همّة عالية وتأثير أعلى فلم يشغل نفسه بما ينشغل به الشباب بل كانت فكرته الدعوية تسيطر عليه وتخلب لبه خاصة وأن أتاتورك كان قد مزق أوتار الخلافة الإسلامية وقضى عليها وكان هذا مما مزق قلب الشاب اليافع فأخذ يجوب أروقة العلماء ويجلس إليهم ويبثهم مشاعره ويحتد على بعضهم أحيانا ويبكي بين أيديهم أحيانا أخرى ،ثم كانت العلامة الفارقة في حياة البنا عندما تعرف على الشيخ رشيد رضا والشيخ محب الدين الخطيب ومن خلالهما تحدد مسار البنا .
كان رشيد رضا تلميذا للإمام محمد عبده ، وكانت قد نشأت علاقة على البعد بينه وبين الشيخ جمال الدين الأفغاني إلا أنه لم يلتق به وكان تأثير هذين الشيخين على رشيد رضا كبيرا فأصبح عالما ثائرا اتجه صوب الإصلاح الديني والسياسي واستقر به المقام في مصر بعد أن غادر بلده لبنان ، وجعل طريقته في الإصلاح هي التربية والتعليم فأنشأ مدرسة الدعوة والإرشاد ثم كانت وجهته الثانية هي الصحافة فأنشأ مجلة المنار وجعل رسالتها التربية والتعليم .
أما محب الدين الخطيب الذي كان ينتمي إلى أسرة دمشقية ذات أصول بغدادية فقد نشأ في دمشق و تلقي العلم بها ومن علمائها ثم رحل في طلب العلم إلى الأستانة وظل بها إلى أن طرده منها الاتحاديون الذين انقلبوا على الخلافة الإسلامية فجاء إلى مصر وتعرّف على الشيخ رشيد رضا وعمل معه في مدرسته ثم أسس المكتبة السلفية وأنشأ مطبعتها .
لم تمر على البلاد العربية والإسلامية أحداث كمثل الأحداث التي كان تترى آنذاك ، فها هي الخلافة الإسلامية ذات الصبغة العثمانية تقع ، وها هو عبد العزيز آل سعود يدحر بجيوشه الذين عُرفوا باسم “الإخوان” جيوش عدوه “آل رشيد” أمراء حائل ، ثم توج عبد العزيز آل سعود انتصاراته بهزيمة الشريف حسين ، ثم قام جيشه المسمى بالإخوان بشن هجوم على شرق الأردن لإثبات أن الأمور دانت لعبد العزيز ثم ها هو في طريقه إلى توحيد الجزيرة العربية تحت اسم المملكة العربية السعودية .
كان رهان الشيخين رشيد رضا ومحب الدين الخطيب على عبد العزيز آل سعود ، فقد وجدا فيه الخليفة المنتظر ،ومن غيره في عرفهما يصلح لها؟ ومن خلال الشيخ المصري حافظ وهبة مستشار الملك عبد العزيز وأحد المقربين له سعي الشيخان حثيثا للقاء الملك والعمل من أجل مشروعه السياسي والفكري ، وفي صورة تبدو وكأنها انقلاب من الشيخين على فكر أستاذهما الشيخ محمد عبده المنفتح ومذهبه الحنفي الأشعري تبنى الشيخان مذهب المملكة الوهابي الحنبلي مع ما فيه وأخذا في الترويج له بحسب أنه سيكون الراية المذهبية التي ستقوم عليها الخلافة الجديدة وقد وضعا في خاطرهما تجربة جيش الإخوان الوهابي الذي كان يرفع شعار ” الله أكبر ولله الحمد “والذي كان يساند عبد العزيز آل سعود بالسيف وبهذا الشعار حتى دانت له الجزيرة .
وكان من تصاريف القدر أن التقى البنا بالشيخين ، فقد كان هم البنا وهمته متجهة إلى مقابلة العلماء يتعرف بهم ويتحدث إليهم ويعرض عليهم أفكاره وشجونه ،وحين التقى البنا بالشيخين لمحا فيه الحماسة والحمية ، هما يحملان المشروع والراية والروية، وهو يحمل الطاقة والاندفاع والفاعلية ، تعرف الشاب حسن البنا من خلالهما ومن خلال الأخبار التي تأتي محمولة عن بُعد على تجربة آل سعود ومساندة الإخوان الوهابية له واطلع على نظام هذا الجيش وتاريخه وشعاره فكان حلمه أن يكون هو قائد الجيش الذي سيقود الأمة إلى استعادة الخلافة مرة أخرى ثم الوصول بها إلى أستاذية العالم على حد قوله ، ولما لا وعبد العزيز آل سعود لم يصل للحكم إلا من خلال الإخوان الوهابيين ، أتجهل مصر جماعة مثلها ؟ ألا بُعدا لمصر إن لم تقف معي وإن لم يكن لي فيها جماعة كجيش الإخوان الوهابي … كان هذا هو لسان حسن البنا وهو يخطو خطواته الأولى في الإسماعيلية مدرسا للخط العربي .
كان حسن البنا يحمل ذكاءً فطريا يعرف أن المصري متدين بطبيعته يرتجف قلبه عند ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ويحب آل البيت حبا جما، فلم يتجه البنا إلى من يذهب للمساجد وإنما ذهب أول ما ذهب وهو في الإسماعيلية إلى من لا يذهبون إلى المساجد فهم أولى ، وفي المقاهي كانت غزوته الدعوية الأولى ” غزوة المقاهي ” فقد فوجئ البسطاء من رواد المقاهي البلدية برجل من الأفندية يرتدي ملابس أفرنجية يقف متكأً على أحد المقاعد يخطب فيهم خطابا دينيا بسيطا ،واستمر على ذلك أياما حتى اشتهر أمره بين الناس وتحدثوا عن ” خوجة ” الخط العربي الذي يعظهم في المقاهي ،ومن المقاهي إلى المساجد الصغيرة كان مراحه ومغداه ،وبعد أيام معدودات نجح البنا في أن يجمع حوله عددا من رجال الإسماعيلية من أصحاب الحرف البسيطة ظل يتزاور معهم ويبثهم خواطره الإيمانية فترة ثم آن الأوان لتكون البذرة الأولى للجماعة .
كان الاقتراح اقتراحه وكانت الفكرة فكرته ، لم أيها الأخوة لا نُنشأ جمعية لنا؟ فلتكن جمعية الإخوان المسلمين ،واستقبل الجمع الذي معه اقتراحه باستحسان ، فهو قائدهم وهم رجاله ، فكان عام 1928 هو عام التأسيس الرسمي لجمعية الإخوان المسلمين ،كان كل غرضها هو الدعوة لله ، والدعوة فقط ، وكان الداعية هو الشاب حسن البنا .
ولسنوات قليلة ظلت الجمعية في حضن مدينة الإسماعيلية إلى أن قيض الله للبنا أمرا وتم نقله إلى القاهرة فانتقلت الجماعة معه وإن ترك في الإسماعيلية إخوانه الذين بدأ معهم ، تركهم وهم يشتجرون فيما بينهم أيهم يكفل الجماعة ويكون مسئولا عنها في تلك المدينة الصغيرة.
وفي القاهرة كانت أيام حسن البنا وجماعته في مرحلتها الثانية ،كان كل همه هو أن يُنشأ شُعَبا لجماعته في كل أنحاء البلاد ،وتفرعت الجماعة وتشعبت حتى تشبعت بها الأقاليم ، وبطريقته الدمثة الحماسية نجح البنا في أن يضم إلى جماعته أقطابا من العلماء مثل الشيخ “طنطاوي جوهري” أحد عباقرة المصريين في القرن العشرين ،وفي القاهرة أيضا كان من اليسير على البنا أن يلتقي يوميا بالشيخين رشيد رضا ومحب الدين الخطيب ،ومعهما التقى بحافظ وهبة مستشار الملك عبد العزيز آل سعود ، ثم سافر إلى الحج ، ويحكي رفاق البنا في هذه الرحلة أنه التقى فيها بالملك السعودي ملك المملكة الناشئة ، ومن بعد هذا اللقاء أصبح شعار الجماعة هو “المصحف والسيفين” وشعارها الآخر هو ” الله أكبر ولله الحمد ” وكأن إخوان الوهابية يُبعثون من جديد ولكن في مصر ، وفي المستقبل ستكون جماعة الإخوان في مصر في القرن الواحد والعشرين هي المقر الرسمي للفكر الوهابي .
وشيئا فشيئا اتجهت بوصلة البنا الدعوية إلى طريق آخر ، فمع مؤتمرات الإخوان ورسائل البنا كانت السياسة ،وكانت شمولية الجماعة ،فمع اختلاط مفهوم الجماعة عند البنا مع مفهوم الدعوة والإسلام والدعوة كان ولابد أن يتجه البنا بجماعته ناحية الشمول فالإسلام الشامل لا يقيمه في ظنه إلا جماعة واحدة على شرط أن تكون هي الأخرى شاملة ،مع أن الإسلام ليس هو الجماعة !!.
ولأن للسياسة طرقها ووسائلها حاول البنا أن يقترب من الملك فؤاد ، وحين مات نعاه البنا ثم قام هو وجماعته بتنظيم استقبال حافل للملك الجديد فاروق ،هتفوا بحياة المليك الجديد ، وبايعوه ، وكتبوا في مجلتهم عن المجد الذي ينتظر الإسلام من خلاله ،واستمرت علاقة البنا بالملك طيبة فترة ثم سرعان ما تعكر الماء بينهما ثم دخل الوفد في دائرة الخلاف ،وراهن البنا حينا من الدهر على رئيس الوزراء إسماعيل صدقي الملقب ” عدو الشعب ” فناصره ووقف معه ضد رغبة الشعب كله، وسرعان ما أصبحت كل الأحزاب في خلافات مع البنا وجماعته فأصبح يمج الحزبية ويكره الأحزاب فلا حزب عنده إلا جماعته التي من شأنها أن تقيم شرع الله وتعود لنا بدولة الخلافة ولا حزبية إلا للإسلام.
يقول البعض إن الخطأ الأكبر للبنا هو أنه دخل في أتون السياسة ،أما أنا فأقول إن الخطأ الأكبر له هو تأسيسه للنظام الخاص عام 1939 ، فبعد وفاة الشيخ طنطاوي جوهري الذي كان يرفض العمل المسلح أنشأ البنا تنظيما مسلحا لجماعته المدنية ،كان هذا التنظيم سريا لا يعرف أحد عنه شيئا حتى من قيادات الجماعة .. وأطلق عليه النظام الخاص، ولا أظن أبدا أن شخصية مركزية مثل شخصية حسن البنا ــ تمرس على أن تكون كل الخيوط في يده ــ يترك الحبل على الغارب للنظام الخاص يفعل ما يشاء دون علمه ،بل إن تحقيقات الإخوان أنفسهم في حضرة البنا وفقا لما أورده عبد العزيز كامل في مذكراته ـ وهو من هو قُربا لحسن البنا وحبا له ـ أثبتت مسئولية البنا عن اغتيال المستشار الخازندار الذي كان قد أصدر حكما على بعض الإخوان ،وكان اغتيال النقراشي باشا رئيس وزراء مصر هو الرصاصة التي انطلقت فيما بعد إلى قلب حسن البنا فأودت به.
كان حسن البنا داعية مؤثرا وكما قال لي أحد أساتذتي عنه ” ألخصه في كلمتين .. علو الهمة وعبقرية التأثير ” إلا أنه لم يكن سياسيا بارعا إذ لم يملك من السياسة إلا الطموح والرغبة في التسيد والسيادة ،وحين أنشأ النظام الخاص كــان قد ابتعد عن الدعـوة عدة فراسـخ وكتب بنفسه لنفسه كلمة ” النهاية “.