التاريخ يكتبه المنتصرون...

التاريخ يكتبه المنتصرون...

هذه المقولة مشهورة ولكنى لا أعرف – فى الحقيقة – من الذى قالها، ولكنى أميل إلى أن من قالها لم يكن من المنتصرين وإلا لما فكر أن يفضح سره.
مثلا.. كتب التاريخ العربية تقول إن السلطان (قطز) هزم (هولاكو) فى معركة عين جالوت.. وعندما تقرأ ما كتبه المؤرخون المغول تجد أن هولاكو لم يقد الجيش أصلا فى هذه المعركة، وإنما ترك قيادة الجيش لقائد قواته وعاد هو ببعض جيشه إلى منغوليا حيث وصلته أنباء بأن أخاه قد اعتنق الإسلام ويؤدى شعائر المسلمين فعاد لنجدة حكمه وبلاده من هذه الكارثة – فى رأيهم - وأن هذا لو لم يحدث لما استطاع شىء أن يوقف الزحف المغولى المقدس، وأن الجيش المغولى – آنذاك – كان جيشا لا يمكن هزيمته بكل المقاييس الحربية والاستراتيجية والقتالية.
وتقول كتب المغول أيضا إن (جنكيز خان) – الذى نصوره نحن العرب بأنه إنسان الغاب طويل الناب– كان حكيما عظيما مهابا معطاء عادلا وقورا متواضعا جسورا شجاعا ذكيا طويلا سريعا لعيبا ...
وأنه أورث حفيده (هولاكو) كل هذه المهارات والسمات والمحاسن والمفاتن فكان بدوره فتيا ذكيا أبيا قويا عفيا بهيا سجيا... وأن ما فعله فى مكتبة بغداد واستعماله للكتب ككبارى ليعبر عليها النهر بخيوله ومركباته العسكرية كان من باب الذكاء والفطنة العسكرية وحسن التصرف، وأن أوامره لجنوده ألا يتركوا شيئا يتحرك فى بغداد كان من باب الانتقام لأبيه الذى قتله الخليفة العباسى، وأن هذا الانتقام هو انتقام مبرر ولا ضير منه حيث إن الرجل الذى لا يغضب لوالده – فى رأيهم - لا يستحق الولادة.
ويستمر المنتصرون فى كتابة التاريخ ...
فنجد (هتلر) القائد العسكرى العصامى والهمام واللماح والمقدام والمتفوه الذى انتفضت لكلماته أشجار أوروبا ورفعت له الأيدى منتصبة أكثر من خمسة أعوام وتغنى باسمه شعراء ومطربو ألمانيا، وحف نجوم السينما العالمية شواربهم اقتداء به وبشاربه (العجيب)، وتحولت على يده المدارس الفرنسية لتعليم اللغة الألمانية كلغة أولى... ثم فجأة تظهر أمريكا فى المشهد وتنهزم ألمانيا ويختفى (هتلر) ويأتى دور المؤرخين (المنتصرين) ليبدأوا فى كتابة تاريخ هذا الرجل السادى والوحشى والقاسى والديكتاتور والعميل والخائن والمخادع والمتسلق والوصولى ...
وتتسابق وسائل الإعلام فى سب الرجل ووصفه بكل الصفات السيئة التى لا يمكن – أصلا – أن تجتمع فى رجل واحد.
وتستمر الكتابة المنتصرة ...
فنجد ثورة 23 يوليو 1952 تشوه وتتفه وتهمش كل ما يخص إنجازات أسرة محمد على.. فلم ندرس فى المدارس مثلا ترعة الإسماعيلية ولا مدينة بورسعيد ولا قناطر محمد على التى سميت بالطبع القناطر الخيرية لطمس كلمة (محمد على) من قاموس الحضارة المصرية، وتم تشويه الأسلوب الذى حفرت به قناة السويس ولم يخبرنا أحد بأن كوبرى قصر النيل هو أول كوبرى تم بناؤه على نهر النيل، وتم تشويه أوبرا عايدة وإهمال عمارات وسط البلد– التى هى تحف معمارية لو أنصفناها– وتم أيضا إزالة تماثيل البكوات والبشوات من أسرة محمد على، ومنع تداول أخبار ما بقى من الأسرة فى وسائل الإعلام وكل ما يخص هذه الحقبة وكأنما حاولت ثورة يوليو أن تخفى عن المصريين أنهم كانوا موجودين فى هذه الفترة، وكأن مصر بكل ما فيها لم تولد إلا على يد الضباط الأحرار.
واهتم الإعلام الثورى (المنتصر) بإنجازات الثورة كالسد العالى والقضاء على الإقطاع الزراعى وإدخال الصناعات الثقيلة وغيرها من الإنجازات التى تم الترويج لها إعلاميا، وتغنى بها أعلام الغناء المصرى وخصصت لها الميزانيات وأنتجت من أجلها الأفلام والمسلسلات، وتم كبت وقمع وإخفاء أى أصوات تعارض أو تؤرخ من وجهة نظر تخالف وجهة النظر المنتصرة.
الطريف واللافت فى كل الأحداث التى سبق سردها – كأمثلة – هو أن التاريخ أثبت فعليا أنه أكثر ذكاء من (المنتصرين).. وأن منتصرى اليوم لن يستطيعوا أن يفلتوا من التاريخ (الحقيقى) الذى سيكتب عنهم كل ما هو حقيقى بعد سنين من انتصارهم.
وهنا أقف أمام نفسى وأسأل وبكل جرأة :
ترى .. ماذا سيذكر عنى التاريخ بعد سنين كأحد الشباب الذين شاركوا فى ثورة 25 يناير2011؟
كيف سيذكر التاريخ أول رئيس جمهورية مصرى يخلعه شعبه؟
كيف سيذكر التاريخ مواقف المشير طنطاوى طيلة عام ونصف من التعامل مع شعب لا يقابل قراراته إلا بالسخرية والرفض؟
كيف سيذكر التاريخ أحداث محمد محمود ومباراة بورسعيد، وحريق شركة بترول السويس وموقعة الجمل، ونتيجة انتخابات الرئاسة، ووفاة عمر سليمان وسرقة المتحف المصرى؟
لمعرفة الإجابة عن هذا السؤال يجب أن نعلم أولا:
هل هزم (قطز) المغول بقيادة (هولاكو) - فعلا - أم أن (هولاكو) عاد لمنغوليا قبل دخول جيشه لمصر؟
هشام الجخ