تظل علاقة د.عبد المنعم أبو الفتوح بقطر علاقة يكتنفها كثير من الغموض، وربما جزء منها هو علاقات تاريخية بين قطر وبين جماعة الإخوان المسلمين، التى كان أبو الفتوح أحد قياداتها قبل الثورة، خصوصا أن الشبهات التى كثيرا ما دارت حول تمويل الجماعة دارت حول عدد من المؤسسات الخيرية التى يقودها رجال الجماعة فى أوروبا، وكان من أبرز شركائها بجوار القطريين فى تلك الفترة اتحاد الأطباء العرب الذى كان د.عبد المنعم أبو الفتوح أمينا عاما له، تحت دعاوى القيام بأعمال خيرية لصالح إغاثة المسلمين فى مناطق عدة من العالم.
وفى غمرة حملته الانتخابية بعد الثورة سرت شائعات حول حمله الجنسية القطرية وتلقى حملته الانتخابية تمويلا من قطر، وهى اتهامات سارع أبو الفتوح إلى نفيها بشكل رسمى، بينما أثار دعم الشيخ يوسف القرضاوى له فى حملته الانتخابية كثيرا من التساؤلات مجددا حول طبيعة العلاقات الحالية بينه وبين القطريين وجماعة الإخوان المسلمين، التى يعد حلقة الوصل فيها الشيخ يوسف القرضاوى وآخرون. حتى إن أبو الفتوح لم يكن يمانع فى أن تقوم قطر بالاستثمار فى مشروع محور قناة السويس، وإن نفى أنها عرضت ذلك قائلا إن قطر «دولة عربية شقيقة مساحتها ربع شبرا»، هكذا قال الرجل نصا نافيا الاتهامات الموجهة إلى النظام القطرى من قبل المهتمين بالشأن العام فى مصر الذين رأوا محاولات حثيثة من النظام القطرى لدعم التيارات الإسلامية، وجعل مصر تابعة للنظام القطرى من خلال السعى للسيطرة على عدد كبير من المشروعات الاقتصادية فى مصر.
أما عن العلاقة بالولايات المتحدة الأمريكية فقد سعى د.أبو الفتوح إلى توطيدها من خلال آخر زيارة له جرت إلى الولايات المتحدة فى نوفمبر الماضى، وهى رحلة ذكر بيان حزب مصر القوية الصادر وقتها بأن هدفها بالأساس هدف علاجى، بينما حازت الرحلة نفسها على مساحة لا بأس بها من اللقاءات جرت مع مسؤولين أمريكيين وأعضاء بمجلس الشيوخ، بدا فيها أن الرجل يحاول تقديم نفسه على أنه بديل سياسى يحمل كثيرا من الانفتاح والاعتدال، بعد أن بدأ نجمه فى الخفوت فى المشهد المصرى الذى أتى فيه مركز أبو الفتوح فى انتخاباته الرئاسية متأخرا، لينتهى بذلك كل ما قيل ونظّر له البعض عن إمكانية خلق توافقات أو تيارات ثالثة خارج الاصطفاف المدنى- الإسلامى. غير أن المرشح الخاسر فى تلك الزيارة ربما سعى إلى التذكير هناك بأنه لا يزال يحمل مجدا سابقا وتوافقا عليه، بدا فى دعم بعض تيارات يسارية له فى الترشح لانتخابات الرئاسة فى السابق، وهى تيارات تصورت فى لحظات أن فكرة الاستقطاب بين المدنى والدينى يمكن تحجيمها بدعم أبو الفتوح كطريق ثالث كما أشرنا.
زيارة أبو الفتوح لقطر فى أى وقت تعنى لقاءه يوسف القرضاوى، الذى تجمعه به علاقات وطيدة، وهو ما حدث بالفعل فى آخر زيارة له إلى قطر جرت فى مارس الماضى، أو تحديدا فى السابع من شهر مارس، للمشاركة فى إحدى الندوات، أو هكذا قيل عن سبب الزيارة، وإن كانت الزيارة لا تعد الأولى من نوعها للدكتور أبو الفتوح إلى قطر، فالرجل زارها فى مناسبات عدة ويحظى بعلاقات جيدة بالسفير القطرى فى مصر، إلا أن توقيت الزيارة الأخير وما تلاها من تحول فى موقف د.أبو الفتوح إزاء الوضع السياسى فى مصر، يحمل كثيرا من التساؤلات حول ما جرى فى وقائع تلك الزيارة، وحقيقة ما صرحت به مصادر لـ«التحرير» -رفضت الكشف عنها- حول لقاء أبو الفتوح فى تلك الزيارة قيادة سياسية قطرية، والشيخ يوسف القرضاوى، وهى معلومة لم ينفها كليا أحد القيادات المقربة من دكتور أبو الفتوح، الذى أكد لنا أن أبو الفتوح التقى القرضاوى غير أنه لم يلتق حمد بن خليفة، وأن أسباب زيارته لقطر كانت تتعلق بحضور ندوة حول «الأخلاق والسياسة».
الغريب هنا هو التحول الجذرى فى موقف الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح بعد تلك الزيارة، فالرجل وقبل الزيارة بيومين كان قد أكد أن حزبه سيشارك فى الانتخابات التشريعية التى كان مقررا إجراؤها فى أبريل، وأكد أن قرار حزبه المشاركة فى الانتخابات يهدف إلى تجنب الاستقطاب فى الساحة السياسية المصرية، فى إشارة إلى الصراع بين الرئيس محمد مرسى وجماعة الإخوان المسلمين من جهة، وجبهة الإنقاذ الوطنى من جهة أخرى. غير أن هذا الموقف سرعان ما تغير فى خلال 48 ساعة! وقعت فى أثنائها زيارته لقطر، بينما لم تشهد الساحة السياسية تطورات جذرية يفهم منها أسباب تغير موقف المرشح لسابق لرئاسة مصر، وهو موقف صار محوره «ضرورة الدعوة إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة»، وهكذا أصبح الرجل فى أقل من 3 أيام من رافض للاستقطاب إلى طرف فيه!
التحول فى الموقف جاء متوازيًا مع تحول فى الموقف الأمريكى والقطرى تجاه الأوضاع فى مصر، فالولايات المتحدة التى جاءت بمرسى إلى سدة الحكم، ووقفت بجواره فى أشد أزماته بات موقفها يحمل تحولات ولو على صعيد الخطاب السياسى كحد أدنى، بدا فى تصريحات أخيرة ومتعددة حول وضع المسار الديمقراطى فى مصر وحالة حقوق الإنسان والحريات بها.
بينما تحول الموقف القطرى أيضا بين عشية وضحاها إلى مسار مماثل، فقطر الدولة التى وقفت تدعم محمد مرسى فى عز أزمته مع المعارضة على الصعيد الاقتصادى بضخ استثمارات فى الداخل، ووضعت وديعة تجاوزت قيمتها المليار دولار لسد العجز الكارثى فى الاحتياطى الأجنبى، ما لبثت بالتوازى مع تبدل المواقف تشير إلى أنها لن تدعم بمزيد، بل وأكدت مصادر مصرفية أيضا أن هناك أنباء عن تهديد قطر بسحب وديعتها لدى البنك المركزى، وهو تهديد يحمل رسالة حول احتمالية السحب التدريجى للدعم القطرى السياسى لجماعة الإخوان المسلمين، وهو تراجع عن التأييد السياسى المباشر الذى بالضرورة سيصب لصالح طرف آخر، وفقا لمساع قطرية تهدف إلى أن تبقى قطر عنصرا محوريا وصانعا للسياسة المصرية.
من المؤكد أن الولايات المتحدة الأمريكية التى تعد قطرا ذراعا سياسية لها فى المنطقة أدركت أن قيادة الجماعة التى أتت بها على رأس السلطة فى مصر، وإن كانت لا تحمل سياسات اقتصادية مختلفة أو عداء لإسرائيل، فإنها سلطة أصبحت تتحول تدريجيا إلى شبيه بسلطة مبارك، ومن ثم تمثل عبئا عليها بشكلها الحالى، فلا هى تسمع النصيحة، ولا هى قادرة على إبداء مرونة تصنع استقرارا سياسيا نسبيا، ولا هى حتى قادرة على اتخاذ إجراءات «شكلية» تبدى قدرا من الاحترام "الديكورى» لحقوق الإنسان. وهو الهدف والخصائص التى تنشدها الولايات المتحدة مع أى سلطة تشاطرها التوجهات الاقتصادية وتؤمن لها دولة إسرائيل الصديقة، دون اكتراث بهوية تلك السلطة أو عقيدتها الأيديولوجية.. فالوضع الاقتصادى فى مصر يتدهور يوما بعد يوم، وحالة الاحتقان المجتمعى التى لا يعرف أحد مداها تزداد، واحتماليات انفجار الأوضاع شعبيا لا تبدو بعيدة عن توقعات مراكز الأبحاث الأمريكية المعنية بالشأن المصرى. ومحاولات كيرى، وزير الخارجية الأمريكية إقناع القوى المدنية فى مصر بالخضوع لسلطة الإخوان المسلمين ومنحها الشرعية بالدخول فى الانتخابات البرلمانية القادمة، من أجل فرض الاستقرار عنوة باءت بالفشل أيضا، والنظام الجديد -شكلا لا مضمونا- الذى أتى فى حالة من السيولة السياسية لا يزال يقض مضاجعه مجموعات من النشطاء التى وصلت إلى قصره وبيته ومقر جماعته، وهى مؤشرات مجمعة ربما تدفع الولايات المتحدة إلى إعادة مقاربتها بخصوص النظام القائم فى مصر وبحث سيناريوهات بديلة.
فى ما يبدو فى الأفق القريب فكرة النسخة الإخوانية البديلة، المتمثلة فى أبو الفتوح، الذى يمثل عمليا -لا تنظيميا- الجناح الأكثر انفتاحا للجماعة، والذى حاز دعم تيارات سلفية فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة وروجت له عناصر يسارية مصرية.
ومن ثم فإن بلورة سيناريو الانتخابات الرئاسية المبكرة وفى حالة دفعت به أطراف معارضة عدة مع ازدياد حدة التوتر السياسى فى مصر، قد يكون خيارا ممتازا لدى الإدارة الأمريكية، لكى تستبدل بضباع الحركة الإسلامية حملانها وبصقورها حمائمها، خصوصا إذا بدت الرسالة الأمريكية لجماعة الإخوان المسلمين حاسمة فى هذا الشأن، وهى رسالة قد تعنى بشكل مباشر طلب الدعم الإخوانى التنظيمى لـ«د.أبو الفتوح»، والجماعة عادة لا تبدى امتعاضا تجاه تلك الأوامر الأمريكية. بينما تتولى قطر الدعم المالى كما فعلت مع الجماعة فى الانتخابات الأخيرة، ويتضمن هذا السيناريو اتفاقا واضحا بين أطراف الحركة الإسلامية برعاية وساطة أمريكية وقطرية حول الوضع السياسى لكل فصيل فى المشهد القادم، بما يضمن تنحى الفصيلين الأكثر تشددا من صدارة الشمهد، بينما يظلان فى قلبه، وهذا بالطبع لصالح وجه يحاول أن يبدو أكثر انفتاحا ويعبر عن مصالح تلك الأطراف بشكل أو بآخر. وعن مصالحها هى شخصيا المعنية كما قلنا بانتهاج نفس السياسات الاقتصادية الرأسمالية وحماية الأمن الإسرائيلى وعدم المساس به. أما القوى المدنية التى كثيرا ما كانت طموحاتها متواضعة وبعيدة عن الحالة الثورية لولا ضغوط مجموعاتها الشبابية عليها، فربما قد لا تعترض على سيناريو الانتخابات الرئاسية التى قد تراه تلك القوى حلا دون أن تدرى أنه يحمل فى وجهه الآخر فخا، يقود إلى نتيجتين فى النهاية متماثلتين مع نتيجة الانتخابات الرئاسية السابقة، مرشح يحظى بدعم شعبى من قطاعات سئمت الحالة الثورية فى البلاد وتريد العودة إلى الوضع السابق قبل الثورة كأفضل الخيارات السيئة، ومرشح آخر قد يضعه فى الصدارة الدعم القطرى والأمريكى والإخوانى رئيسا يمثل تقاطع المصالح المشتركة لتلك الأطراف.