أصبحت صفحة الحوادث فى الجرائد المصرية هى المؤرخ غير الشرعى لمصر المحروسة، وصارت الجرائم هى المرصد الأخلاقى غير المرئى للتغيرات التى طرأت على شخصية سكانها ومواطنيها، وبعيداً عن جرائم القتل أو السطو أو ما نطلق عليه الجرائم الكبرى، تظل الجرائم الصغرى أو ما نطلق عليه نحن الجرائم الهامشية أو «الجنح» بلغة القانون، أكثر تعبيراً ودلالة على تلك التغيرات والتشوهات التى استقرت فى نسيج الشخصية المصرية.
استرعى انتباهى خبر صغير فى مبناه، خطير فى معناه، مر الخبر مرور الكرام وتم نشره بدون أسماء نظراً لحساسية وضع وحيثية أبطال القصة، عنوان الخبر «صيدلانية تساعد زوجها وكيل النيابة بالمحمول»، أما عن شكل المساعدة التى مثلت جريمة فهى تلقينه أو تغشيشه إجابات امتحان الدبلوم بالمحمول!، ولو تعرفنا أكثر على تفاصيل التفاصيل فسنجد أن المادة التى يغش فيها الممتحن هى مادة الشريعة الإسلامية!!،
حكاية عجيبة وغريبة ومدهشة ولها دلالات تتجاوز مساحة هذا العمود المتواضع، أو بالأصح تتجاوز مساحة الجريدة بأكملها، فالبطل يعمل فى ساحة العدالة العمياء التى لا تنظر لمنصب أو جاه وتتعامل مع الضمير والحق والواجب والقانون، الحافز الأخلاقى والوازع الدينى عند من يعمل فى ساحة العدالة هو الجوهر والأساس، البطلة أيضاً تعمل فى مجال يحتاج إلى الضمير ويستلزم الدقة والانضباط والمعايرة، ولو تركنا كل هذا وقلنا أن كل مجال وكل مهنة بها استثناءات فماذا عن المادة التى يمتحن فيها بطل القصة؟
إنها مادة الشريعة الإسلامية!!، منهجها الذى يدرسه وموادها التى يحفظها وأسئلتها التى يمتحن فيها، كل هذا مناخ يحرضه على الصدق والعدل وتأنيب الضمير بالنفس اللوامة، ويذكره كل لحظة أن هناك قوة عليا تراقبه وتحسب عليه خطواته، وبرغم هذا المناخ فإنه قبل الغش عن طريق المحمول، ورضى أن يكون وسيط الغش زوجته!.
الشكلية صارت هى مفتاح الشخصية المصرية الجديدة، الفاترينة هى شعار المصرى فى هذا الزمان، مادمت محافظاً على الشكل الخارجى فأنت فى أتم عافية نفسية وسلوكية، حتى ولو كنت من الداخل مختزناً لسيئات وموبقات الكون كله!، مادامت فاترينة عرض البضاعة عندك مزينة ومضاءة وملونة فأنت فى أمان من عيون وألسنة الناس وانتقاداتهم، حتى ولو كانت البضاعة متعفنة ومنتهية الصلاحية!، أنت تصدر للناس شكلك الخارجى وهذا هو المهم فى مصر، أما موضوعك الداخلى وجوهرك وقناعاتك وسلوكياتك فهذه أشياء هامشية.
القصة فى صفحة الحوادث ظاهرها واقعة غش لكن باطنها واقعة نفاق، عنوانها زوج يغش وزوجة تغشش، لكن تفاصيلها أمة تكذب ووطن ينخر عظامه السوس، مجتمع يقف مثل النبى سليمان متكئاً على عصاه، يحسبه الأتباع حياً وهو فى حقيقة الأمر مجرد جثة، فهل سيأتى النمل ليأكل العصا ويظهر الحقيقة؟!!.
بقلم د.خالد منتصر ٢/ ٦/ ٢٠١٠
" جريدة المصري اليوم "