منذ ظهر نجمهم فى سماء السياسة أصبح السلفيون عنوانا شبه ثابت فى وسائل الإعلام المختلفة، خصوصا فى مصر ودول المغرب العربى، وحين دبت الخلافات بين بعض قياداتهم فى مصر تنافست كل الصحف فى متابعة تفاصيلها بشكل مبالغ فيه، وكأن البلد ضربه زلزال سياسى من الدرجة العالية، يوشك أن يقلب الخرائط ويفتت الساحة السياسية. ولم يقف الأمر عند حد رصد التفاصيل وتحرى أسباب الصراع واستنطاق أطرافه، وإنما تجاوزه إلى إبراز آراء رموز السلفية فى مختلف أمور الدين والدنيا.
حتى طالعتنا صحيفة «الشروق» أمس الأول (الاثنين الأول من أكتوبر) بتقريرين، أحدها أبرز على الصحفة الأولى وتضمن متابعة التجاذب الحاصل بين قيادات حزب النور، وكان عنوانه: النور ينتحر على أعتاب لجنة الأحزاب، والثانى على صفحة كاملة بالداخل، وكان خلاصة حوار مع أحد الشخصيات السلفية نقلت عناوينه عنه قوله: قبول الإسلاميين بآليات الديمقراطية معصية ــ و ــ الديمقراطية مضادة للإسلام ومن يكتم ذلك يأثم. وفى اليوم ذاته نشرت صحيفة «المصرى اليوم» على الصفحة الأولى كلاما منسوبا لأحد الدعاة السلفيين قال فيه إن الليبراليين والعلمانيين كفار ويجب إقامة حد الرِدّة عليهم (!)
بقية الصحف المصرية تابعت وقائع التجاذبات الحاصلة بين السلفيين المختلفين، فى الوقت الذى تناقلت فيه وكالات الأنباء أخبار مواجهات السلفيين مع أجهزة الأمن فى تونس، وتحذيرات الشيخ راشد الغنوشى مؤسس حركة النهضة من خطورة هذه المجموعات على السلم الأهلى فى البلاد.
من يطالع أمثال تلك التقارير اليومية يخيل إليه أننا بصدد قوة سلفية كبرى تنافس أخبارها ما تنشره الصحف عن الدول العظمى، وربما تصور البعض أن المجتمعات العربية صارت مهددة بالزحف السلفى، وأن أفكار الآحاد التى تبرزها الصحف ترسم صورة منفره وكئيبة للمستقبل، الأمر الذى يبرر الحيرة والقلق. ليس عندى دفاع لا عن تجاذبات السلفيين ولا عن غريب أفكارهم، لكنى أزعم أن الإعلام يبالغ فى تقديم حجمهم، كما يخلط الأوراق فى الحديث عنهم، ولا يخلو الأمر من تسليط الأضواء القوية على سلبياتهم واصطياد ما هو شاذ من آرائهم، حتى إذا كانت تلك الآراء لأحاد الناس الذين لا يمثلون إلا أنفسهم وليس لديهم دراية بالدين أو الدنيا. وما سبق ذكره من نماذج تلك الآراء.
إزاء ذلك فإن تحرير الصورة وتفكيكها يبدو ضروريا لفهم ما يجرى فى تلك الساحة. فالناظر إلى المشهد عن قرب يدرك أن السلفيين ليسوا شيئا واحدا. إذ رغم أن العنوان يجمع بينهما إلا أنهم يتوزعون على ثلاث مدارس متباينة على الأقل. فهناك السلفية الدعوية التى خرجت أساسا من المملكة العربية السعودية. وتبنت أفكار الشيح محمد بن عبدالوهاب المستقاة من فتاوى ابن تيمية وغيره من أئمة مذهب أحمد بن حنبل، وهذه المدرسة الدعوية تتحرك خارج السياسة، وقد تدعمها، لكنها لا تنخرط فيها أو تمارسها.
هناك أيضا السلفية الجهادية التى تكفر المجتمع وترفع السلاح لتغييره. وهذه لها حضورها فى دول المغرب العربى وصلاتها قائمة مع تنظيم القاعدة، على الصعيد الفكرى على الأقل. ولا وجود لتلك المدرسة فى مصر فى الوقت الراهن، وإن دلت بعض القرائن على أن لعناصرها وجودا فى شبه جزيرة سيناء، وهناك من يرى بأن أعمال العنف والأنشطة الإرهابية التى مورست فى مصر خلال الثمانينيات خرجت من عباءة السلفية التكفيرية والجهادية.
المجموعة التى تسلط عليها الأضواء فى مصر الآن تمثل مدرسة ثالثة يصح أن نطلق عليها السلفية السياسية، وهى التى تضم مجموعة من النشطاء الذين اختاروا الدخول فى المجال العام والانخراط فى العمل السياسى، وهم فريقان أحدهما اختار الصيغة الحزبية التى تبلورت فى صورتى حزب النور وحزب الأصالة، والفريق الثانى انحاز إلى فكرة مرجعية الأشخاص وليس الصيغة الحزبية. بمعنى أنهم لم يشكلوا حزبا له قيادة مؤسسية ولكنهم التفوا حول أشخاص توسموا فيهم المرجعية الفقهية والقيادة الفكرية.
تيار السلفية السياسية جديد فى مصر رغم أنه ظهر فى الكويت منذ عقدين من الزمان تقريبا. وله حضوره الدائم فى البرلمان هناك. ولم يعد سرا أن الأجهزة الأمنية فى مصر حاولت فى السابق أن تستخدم بعض السلفيين سواء لاختراق الإخوان أو لسحب البساط من تحت أقدامهم. والضجيج الذى يسلط عليه الإعلام أضواءه اليومية ينحصر فى إطار مجموعة السلفية السياسية التى هى حديثة العهد بالمشاركة فى العمل السياسى، بالتالى فهى لم تكتسب خبرات أو تقاليد الانخراط فى اللعبة، ولذلك حرص بعضهم على اكتساب تلك الخبرات من خلال التعلم وتلقى المحاضرات من ذوى الاختصاص والخبرة، ومما أخذ على رئيس حزب النور مثلا الدكتور عماد عبدالغفور أنه لم يكن قادرا على استيعاب فكرة العمل المؤسسى، وظل يدير الحزب بمفهوم مرجعية الشيخ الفرد الأمر الذى أثار حفيظة غيره من قياديى الحزب.
ولعلى لا أكون مخطئا إذا قلت إن الخلاف الدائر فى أوساط حزب النور ليس حول الأفكار، لكن له أسبابه التنظيمية التى عادة ما تحدث فى إطار أى مجموعة سياسية. بالتالى فقد سرى عليهم ما حدث من قبل مع الإخوان والوفديين والشيوعيين والناصريين، ولم يحدث ذات الضجيج الذى تثيره وسائل الإعلام هذه الأيام بحسن نية أو بسوئها.
إن إخواننا هؤلاء حديثو عهد باللعبة السياسية، وبعضهم يتعلمون ويتطورون ويحتاجون إلى وقت أطول لإنضاج أفكارهم واكتساب خبراتهم، لكن الإعلام لا يرحم.