لدى البعض منا فى مصر عقدة اسمها «قطر»، وملحق بها قناة الجزيرة بطبيعة الحال. وهو ما فهمته فى ظل النظام السابق الذى اعتبر كل من خالفه فى الرأى خصما وعدوا، لكنى أستغرب استمرار الفكرة بعد الثورة. حيث يفترض أننا تخلصنا من ثقافة مرحلة مبارك، حين استقالت مصر من موقع الريادة ودائرة الفعل، وأصبحت تعامل بنفور واستياء مع أى طرف آخر يتحرك فى الساحة العربية، خصوصا إذا تبنى موقفا مغايرا للموقف المصرى، إلا أنه إذا جاز لنا أن نستغرب شيوع هذه الفكرة بين عامة الناس، فإن استغرابنا يتضاعف حين نلمس صداها فى أوساط المثقفين، الذين يفترض أنهم أكثر وعيا بوزن مصر وأكثر استيعابا لخرائط المنطقة، وأكثر إدراكا لملابسات ومقاصد الدور القطرى.قبل أيام قرأنا غمزا فى الدور القطرى انبنى على أن أحد قيادات الإخوان المسلمين تحدث إلى برنامج تليفزيونى بثته قناة الجزيرة، وتطرق فى كلامه إلى استعداد الإخوان لتشكيل حكومة ائتلافية فى مصر، وهو كلام اعتبر حلقة فى مسلسل التآمر على مصر واستمرارا للدور القطرى «المشبوه». ولست أرى وجها للتآمر فى الحوار الذى بثته الجزيرة، كما اننى لا أرى غرابة فى أن يفكر حزب الأغلبية فى تولى السلطة، خصوصا إن أى باحث فى الشأن السياسى يعلم أن الوصول إلى السلطة بالوسائل الديمقراطية هدف مشروع لأى حزب سياسى، رغم أننى لا أحبذ هذه الفكرة فيما خص الإخوان بالذات.فيما فهمت فإن الاعتراض لم يكن على ظهور القيادى الإخوانى على شاشة الجزيرة، وإنما انصب على ما عبر عنه من مواقف. وللعلم فليست هذه المرة الأولى التى بثت فيها القناة شيئا يتعلق بالشأن الداخلى لبلد آخر. فى هذا الصدد أذكِّر البعض أن الدكتور منصف المرزوقى رئيس تونس الحالى كان أول من أطلق من منفاه فى باريس الشعار الذى رفع به راية العصيان ضد الرئيس السابق زين العابدين بن على، وقد تم له ذلك من خلال قناة الجزيرة حيث قال على شاشتها ان بن على رئيس لا يصلح (بكسر اللام)، ولا يصلح (بضمها). وبسبب ذلك التصريح قطعت العلاقة بين تونس وقطر طوال خمس سنوات. حدث ذلك أيضا مع الشيخ صادق الغريانى أستاذ الشريعة بالجامعة الليبية الذى قال فى بداية الثورة على شاشة الجزيرة إن القذافى لم يعد ولى الأمر، وبالتالى فلا طاعة له فى أعناق الناس، وكانت فتواه تلك من الشرارات التى حفزت الليبيين على التمرد على القذافى والهجوم على معقله فى باب العزيزية، لم يعتبر كلام الدكتور المرزوقى ولا فتوى الشيخ الغريانى (الذى أصبح الآن مفتى ليبيا) تآمرا على أى من البلدين، ولكن الذى حدث أن الرجلين وجدا فى قناة الجزيرة منبرا مناسبا للتوصيل وللإعلان عن آرائهما.فى وقت سابق، حين اشتدت الحملة على قناة الجزيرة إبان حكم الرئيس السابق، ودعا البعض إلى إغلاق مكتب الجزيرة فى القاهرة، اعترضت على الفكرة فى نص منشور، وقلت ما خلاصته إن من لا تعجبه الجزيرة فليؤسس قناة أفضل منها، والعاجزون والفاشلون هم الذين يلجأون إلى اسلوب الإغلاق والهدم. لكن التحدى الحقيقى يكون بمنازلة الآخرين ومنافستهم من خلال جذبهم إلى أداء آخر يتفوق على ما تقدمه الجزيرة.إن المشكلة ليست فى الدور الذى تقوم به قطر، علما بأن ما تقوم به السعودية أقوى تأثيرا وأهم فى الساحة العربية، لكن جوهر المشكلة يكمن فى الفراغ العربى المخيم. والذى حول العالم العربى إلى جسم بلا رأس، وأحيانا بلا عقل. الأمر الذى فتح الباب واسعا للقوى الكبرى لأن تصبح هى الرأس الذى يقود الأمة والعقل الذى يرشدها. وربما كان جزء من المشكلة أن الدور القطرى يمضى فى اتجاه يبدو فى بعض الأحيان مستقلا ومختلفا عن مسار الدور السعودى، حتى أزعم أن درجة النقد والاستياء يمكن أن تتراجع لو تطابق الدور القطرى مع السعودى. فى هذا الصدد لا مفر من الاعتراف بأن خرائط منطقة الخليج تغيرت، فاختلفت القدرات والمواقف والأوزان، بحيث لم يعد هناك «ممثل شرعى وحيد» للمنطقة، وان ظلت هناك مجالات للتوافق داخل مجلس التعاون الخليجى.إن السؤال المهم ليس لماذا تتحرك دولة مثل قطر أو السعودية، لكنه لماذا غابت مصر، وإلى متى يمكن أن يستمر ذلك الغياب.إن قطر ليست الدولة العظمى التى يتوهمها البعض محركة لأحداث المنطقة، وينبغى ألا تلام إذا حاولت أن تقوم بدور فى الفراغ الراهن، الأمر الذى يسوغ لنا أن نقول ان لومنا لا ينبغى أن يوجه إلى الذين يعملون، ولكن القاعدين الذين لا يعملون هم الأجدر باللوم والعتاب. إلا أن بعضنا للأسف لا يريدون أن يرحموا، ولا يريدون لرحمة الله أن تنزل بالخلق. فهمي هويدي